بمحمد من تجار مكة وأشرافها حتى عرفت نفوسهم الطهر والنزاهة والمغفرة والرحمة، وآمن به كل ضعيف وكل بائس وكل محروم، وانتشر أمر محمد بمكة ودخل الناس في الإسلام أرسالا رجالا ونساء.
وتحدّث الناس عن محمد وعن دعوته. في أن أهل مكة من قساة الأكباد ومن على قلوبهم أقفالها لم يعبثوا به أول أمره وظنوا أن حديثه لن يزيد على حديث الرهبان والحكماء أمثال قسّ وأمية وورقة وغيرهم، وأن الناس عائدون لا محالة إلى دين آبائهم وأجدادهم، وأنّ هبل واللات والعزى، وإسافا ونائلة اللذين كانا ينحر عندهما، ستكون آخر الأمر صاحبة الغلب، ناسين أن الإيمان الصادق لا يغلبه غالب، وأن الحق قد كتب له الفوز أبدا.
بعد ثلاث سنين من حين البعث أمر الله ورسوله أن يظهر ما خفي من أمره وأن يصدع بما جاء منه، ونزل الوحي: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (?) (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (?) .
ودعا محمد عشيرته إلى طعام في بيته، وحاول أن يحدّثهم داعيا إياهم إلى الله؛ فقطع عمه أبو لهب حديثه واستنفر القوم ليقوموا: ودعاهم محمد في الغداة كرّة أخرى، فلما طعموا قال لهم: ما أعلم إنسانا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة. وقد أمرني ربي أن أدعوكم إليه. فأيكم يؤازرني على هذا الأمر؟ فأعرضوا عنه وهمّوا بتركه- لكن عليّا نهض، وهو ما يزال صبيّا دون الحلم. وقال:
«أنا يا رسول الله عونك. أنا حرب على من حاربت» . فابتسم بنو هاشم وقهقه بعضهم، وجعل نظرهم يتنقل من أبي طالب إلى ابنه، ثم انصرفوا مستهزئين.
انتقل محمد بعد ذلك بدعوته من عشيرته الأقربين إلى أهل مكة جميعا. صعد الصّفا يوما ونادى: يا معشر قريش! قالت قريش: محمد على الصفا يهتف، وأقبلوا عليه يسألونه ماله؟ قال: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل أكنتم تصدّقون؟ قالوا: نعم! أنت عندنا غير متهم وما جرّبنا عليك كذبا قطّ. قال:
فإني نذير بين يديّ عذاب شديد، يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف، يا بني زهرة، يا بني تيم، يا بني مخزوم، يا بني أسد، إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، وإني لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من الآخرة نصيبا إلا أن تقولوا: لا إله إلا الله، أو كما قال. فنهض أبو لهب- وكان رجلا بدينا سريع الغضب- فصاح: «تبّا لك سائر هذا اليوم! ألهذا جمعتنا!» .
وأرتج على محمد فنظر إلى عمه، ثم ما لبث أن جاء الوحي بقوله تعالى: (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ. ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ. سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) (?) .
لم يحل غضب أبي لهب ولا خصومة غيره من قريش دون انتشار الدعوة إلى الإسلام بين أهل مكة. فلم يكن يوم إلا أسلم فيه بعضهم لله وجهه. وكان الزاهدون في الدنيا أشدّ على الإسلام إقبالا. أولئك لا تلهيهم التجارة ولا يلهيهم البيع عن التأمل فيما يدعوهم الداعي إليه. وهم قد رأوا محمدا في غنى من مال خديجة وماله، وهاهو ذا مع ذلك لا يعبأ بهذا المال ولا بالمزيد عليه والإكثار منه، ويدعو إلى الحب والعطف والمودّة والتسامح. بل هاهو ذا يجيئه الوحي بأن في الإكثار من الثورة لعنة للروح. أليس يقول: (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ.