انتظر هداية الوحي إيّاه في أمره وإنارة سبيله، فإذا الوحي يفتر! وإذا جبريل لا ينزل عليه، وإذا ما حوله سكينة صامتة جعلته في وحدة من الناس ومن نفسه، وردّته إلى مثل مخاوفه قبل نزول الوحي. وقد روي أن خديجة قالت له: ما أرى ربك إلا قد قلاك. وتولاه الخوف والوجل، فهما يبتعثانه من جديد يطوي الجبال وينقطع في حراء يرتفع بكل نفسه ابتغاء وجه ربّه يسأله: لم قلاه بعد أن اصطفاه؟ ولم تكن خديجة أقلّ منه إشفاقا ووجلا. ويتمنى الموت صادقا لولا أنه كان يشعر بما أمر به فيرجع إلى نفسه ثم إلى ربه ولقد قيل: إنه فكر في أن يلقي بنفسه من أعلى حراء أو أبي قبيس. وأي خير في الحياة وهذا أكبر أمله فيها يذوي وينقضي! وإنه لكذلك تساوره هذه المخاوف إذ جاءه الوحي بعد طول فتوره، ونزل عليه بقوله تعالى: (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى. ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى. وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى. وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى. أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى. وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى. وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى. فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ. وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ. وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (?) .
يا لجلال الله! أيّة سكينة للنفس، وغبطة للقلب، وبهجة للفؤاد! انجابت مخاوف محمد وزال كل روعه، وارتسمت على ثغره ابتسامة الرضا، وافترّت شفتاه عن معاني الحمد وآي التقديس والعبادة، لم يبق لما كانت تخشى خديجة من أن الله قلاه ولم يبق لفزعه وهلعه موضع، بل تولّاه الله وتولاها برحمته، وأزال كل خشية أو ريبة من نفسه. لا انتحار إذا، ولكن حياة ودعوة إلى الله، وإلى الله وحده. إلى الله العليّ الكبير تعنو له الجباه ويسجد له من في السموات والأرض جميعا. هو وحده الحقّ وكل ما يدعون من دونه الباطل. إليه وحده يتوجّه القلب، وبه وحده يجب أن تتعلق النفس، وفيه وحده يجب أن تفنى الرّوح، وللآخرة خير لك من الأولى. الآخرة التي تحيط فيها النفس بكل الوجود في كمال وحدته، والتي يتناهى إليها المكان والزمان وتنسى فيها اعتبارات هذه الحياة الوضيعة الأولى. الآخرة التي يصير فيها الضحى ولألاء شمسه الباهرة، والليل ودجاه الساجي، والسموات والكواكب والأرض والجبال كلّا واحدا تتصل به الروح الراضية المرضية. هذه هي الحياة التي يجب أن تكون إليها الغاية من سفر هذه الحياة. هذا هو الحق وكل ما دونه صور منه لا تغني عنه.
هذا هو الحق الذي أضاء بنوره روح محمد والذي ابتعثه من جديد ليفكر في الدعوة إلى ربّه. وللدعوة إلى ربه يجب أن يطهر ثيابه، وأن يهجر المنكر، وأن يصبر على ما يلاقي من الأذى في سبيل الدعوة إلى الحق، وأن ينير للناس سبيل العلم بما لم يكونوا يعلمون، وألّا ينهر من أجل ذلك سائلا، ولا يقهر يتيما. حسبه اختيار الله إياه لكلمته فليتحدث عنها. وحسبه أن الله وجده يتيما فاواه في كفالة جدّه عبد المطلب وعمه أبي طالب؛ وأنه وجده فقيرا فأغناه بأمانته ويسّر له خديجة شريكة صباه، شريكة تحنثه، شريكة بعثه، شريكة المحبة، الناصحة الرؤف؛ وأنه وجده ضالا فهداه برسالته. حسبه هذا. وليدع إلى الحق جاهدا ما استطاع. ذلك أمر الله إلى نبيه الذي اصطفاه، وما ودّعه وما قلاه.
وعلّم الله نبيه الصلاة فصلّى وصلّت خديجة معه. وكان يقيم معهما غير بناتهما عليّ بن أبي طالب الذي كان صبيّا لمّا يبلغ الحلم. ذلك أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب كثير العيال. فقال محمد لعمه