جاءت مع الريح من ناحية البحر، وأصابت العدوى أبرهة نفسه، فأخذه الروع وأمر قومه بالعودة إلى اليمن.

وفر الذين كانوا يدلّون على الطريق ومات منهم من مات. وكان الوباء يزداد كل يوم شدّة ورجال الجيش يموت منهم من يموت كل يوم بغير حساب. وبلغ أبرهة صنعاء وقد تناثر جسمه من المرض، فلم يقم إلا قليلا حتى لحق بمن مات من جيشه. وبذلك أرّخ أهل مكة بعام الفيل هذا، وخلده القرآن بذكره: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ. أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ. وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ. تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) (?) .

مكانة مكة بعد الفيل

زاد هذا الحادث الفذّ العجيب في مكانة مكة الدينية، وزاد تبعا لذلك في مكانتها التجارية، وزاد أهلها انصرافا عن التفكير في شيء غير الاحتفاظ بتلك المكانة الرفيعة الممتازة ومحاربة من يحاول الانتقاص منها أو الإعتداء عليها.

وزاد المكيين حرصا على مكانة مدينتهم ما كانت تتيحه لهم من رخاء وترف على أوسع صورة يستطيع الذهن تصوّرها للترف في هذه الجهة الصحراوية البلقع الجرداء. فقد كان لأهلها غرام بالنبيذ أيّ غرام، وكانوا يجدون في النشوة به نعيما أيّ نعيم! نعيما يسّر لهم أن يطلقوا لشهواتهم أعنّتها، وأن يجدوا في الجواري والعبيد الذين يتّجرون فيهم والذين يشترونهم متعا تغريهم بالمزيد منها، ويغريهم ذلك بالحرص على حريتهم وحرية مدينتهم، وباليقظة للذود عن هذه الحرية ودفع كل معتد أثيم تحدّثه نفسه بالعدوان عليها. ولم يكن شيء أشهى إليهم من أن يجعلوا سمرهم وشرابهم في سرّة المدينة حول بناء الكعبة. وهناك إلى جانب ثلثمائة صنم أو تزيد، لكل قبيلة من قبائل العرب بينها صنم أو أكثر، كان أكابر قريش والمقدّمون من أهل مكة يجلسون، يقصّ كلّ منهم أمر ما اتّصل به من أخبار البادية واليمن وجماعة المناذرة في الحيرة والغسا سنة في الشام مما ترد به القوافل أو يتناقله سكان البادية. وكان ذلك يصل إليهم على سبيل الرواية تتناقلها قبيلة عن قبيلة، وكأن كل قبيلة لها مذيع وملتقط لا سلكي يتلقى الأنباء ويذيعها. يقص كل ما اتصل به من أخبار البادية ويروي روايات جيرانه وأصحابه ويشرب نبيذه ويعدّ نفسه بعد سمر الكعبة لسمر أكثر إشباعا لأهوائه وإمتاعا لشهواته.

وتطلّ الأصنام بعيونها الحجرية على مجالس السمر هذه، وللسامرين فيها من الحماية أن جعلت الكعبة بيتا حراما ومكة بلدا آمنا، وللأصنام على السامرين ألّا يدخل مكة كتابيّ إلا أن يكون أجيرا لا يتحدّث بشيء من أمر دينه ومن أمر كتابه. ولذلك لم تكن ثمة جاليات من اليهود كما كانت بيثرب، ولا من النصارى كما كانت بنجران. بل كانت كعبتها قدس أقداس الوثنية تحميها من كل مجدّف في أمرها، وتحتمي بها من العدوان عليها. وكذلك استقلّت مكة بنفسها كما كانت تستقلّ قبائل العرب بنفسها، ولا ترضى لغيرها عليها سلطانا، ولا ترضى من استقلالها بديلا ولا تعنى من الحياة بغير هذا الاستقلال في حمى أوثانها؛ لا تضار قبيلة قبيلة أخرى، ولا تفكر طائفة من القبائل في الارتباط لتكون جماعة قوية، لها ما للروم أو للفرس من مطامع في السيادة والغزو. ومن ثمّ ظلّت القبائل جميعا ولا كيان لها غير كيان البداوة تنتجع في ظلاله المرعى، وتعيش في كنفه عيشا خشنا، يحبّبه إليها ما فيه من استقلال وحرية وأنفة وفروسية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015