المطلب استعدى أخواله بيثرب على عمه كي يردّوا عليه حقه. وأقبل ثمانون فارسا من خزرج يثرب لنصرته، فاضطرّ نوفل إلى ردّ ماله إليه. وقام عبد المطلب في مناصب هاشم، له السقاية والرّفادة من بعد عمه المطلب.
وقد لقي في القيام بهذين المنصبين، وبالسقاية بنوع خاص، شيئا غير قليل من المشقة؛ فقد كان يومئذ وليس له من الأبناء إلا ولده الحارث. وكانت سقاية الحاجّ يؤتى بها، منذ نضبت زمزم، من آبار عدّة مبعثرة حول مكة، فتوضع في أحواض إلى جوار الكعبة. وكانت كثرة الولد عونا على تيسير هذا العمل والإشراف عليه.
أمّا وقد ولي عبد المطلب السقاية والرّفادة وليس له ولد إلا الحارث فقد عنّاه الأمر وطال فيه تفكيره.
وكانت العرب ما تفتأ تذكر زمزم التي طمّها مضاض بن عمرو الجرهمي منذ قرون خلت، وتتمنى لو أنها كانت لا تزال باقية. وكان عبد المطلب بطبيعة مركزه أكثرهم تفكيرا في هذا الأمر وأشدّهم تمنيا أن يكون.
ولقد ألحّ الرجاء به حتى كان يهتف به الهاتف أثناء نومه يحضّه على أن يحفر البئر التي تفجّرت تحت أقدام جدّه إسماعيل. وألح الهاتف يدلّه على مظانّ وجودها؛ وألحّ هو باحثا عن زمزم حتى اهتدى إليها بين الوثنين إساف ونائلة. وجعل يحفر مستعينا بابنه الحارث حتى نبع الماء وظهرت غزالتا الذهب وأسياف مضاض الجرهميّ وأرادت قريش أن تشارك عبد المطلب في البئر وفيما وجد فيها. فقال لهم: لا! ولكن هلمّ إلى أمر نصف بيني وبينكم: نضرب عليها بالقداح نجعل للكعبة قدحين، ولي قدحين، ولكم قدحين، فمن خرج قدحاه على شيء كان له، ومن تخلّف قدحاه فلا شيء له؛ فارتضوا رأيه. ثم أعطوا القداح صاحب القداح الذي يضرب بها عند هبل في جوف الكعبة، فتخلف قدحا قريش وخرجت الأسياف لعبد المطلب والغزالتان للكعبة.
فضرب عبد المطلب الأسياف بابا للكعبة، وضرب في الباب غزالتي الذهب حلية للبيت الحرام. وأقام عبد المطلب في سقاية الحاجّ بعد أن يسّرتها زمزم له.
وأحس عبد المطلب قلة حوله في قومه لقلة أولاده، فنذر إن ولد له عشرة بنين ثم بلغوا معه أن يمنعوه من مثل ما لقي حين حفر زمزم لينحرنّ أحدهم لله عند الكعبة. وتوافى بنوه عشرة آنس فيهم المقدرة على أن يمنعوه؛ فدعاهم إلى الوفاء بنذره فأطاعوا. وفي سبيل هذا الوفاء كتب كل واحد من الأبناء اسمه على قدح، وأخذها عبد المطلب وذهب بها إلى صاحب القداح عند هبل في جوف الكعبة. وكانت العرب كلما اشتدّت بها الحيرة في أمر لجأت إلى صاحب القداح كي يستفتي لها كبير الآلهة الأصنام عن طريق القداح. وكان عبد الله بن عبد المطلب أصغر أبنائه وأحبّهم لذلك إليه. فلمّا ضرب صاحب القداح القداح التي عليها أسماء هؤلاء الأبناء ليختار هبل من بينها من ينحره أبوه، خرج القدح على عبد الله، فأخذ عبد المطّلب الفتى بيده وذهب به لينحره حيث كانت تنحر العرب عند زمزم بين إساف ونائلة. إذ ذاك قامت قريش كلها من أنديتها تهيب به أن لا يفعل، وأن يلتمس عن عدم ذبحه عند هبل عذرا. وتردّد عبد المطلب لدى إلحاحهم. وسألهم ما عساه يفعل لترضى الآلهة؟ قال المغيرة بن عبد الله المخزومي: إن كان فداؤه بأموالنا فديناه. وتشاور القوم واستقرّ رأيهم على الذهاب إلى عرّافة بيثرب لها في مثل هذه الأمور رأي. وجاؤا العرّافة، فاستمهلتهم إلى الغد ثم قالت لهم كم الديّة فيكم؟ قالوا: عشر من الإبل. قالت: فارجعوا إلى بلادكم ثم تقرّبوا وقرّبوا عشرا من الإبل ثم اضربوا عليه وعليها بالقداح، فإن خرجت على صاحبكم: فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم. وقبلوا، وجعلت القداح تخرج على عبد الله فيزيدون في الإبل حتى بلغت مائة؛ عند ذلك خرجت القداح على الإبل.