إسماعيل وعرفه قال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت: ذهب يتصيد ما نعيش به. فسألها أعندها ضيافة من طعام أو شراب؟ فأجابت بأن ليس عندها شيء. فانصرف إبراهيم بعد أن قال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه مني السلام وقولي له: غير عتبة بيتك. فلما أخبرت إسماعيل بما ذكره أبوه سرّحها وتزوّج جرهميّة أخرى بنت مضاض بن عمرو. وقد أكرمت وفادة إبراهيم لمّا جاء بعد ذلك بزمن.. فلما انصرف طلب إليها أن تقرئ زوجها السلام وتقول له: الآن استقامت عتبة بيتك. وولد لإسماعيل من هذا الزواج اثنا عشر ولدا، هم آباء العرب المستعربة، وهم العرب الذين ينتمون من ناحية خؤولتهم في جرهم إلى العرب العاربة أبناء يعرب بن قحطان؛ فأما أبوهم إسماعيل بن إبراهيم فيمتّ من ناحية أمومته إلى مصر بأوثق نسب، ومن ناحية أبوته إلى العراق وإلى فلسطين وإلى حيث نزل إبراهيم من أرض الله.
هذه القصة من قصص التاريخ يكاد ينعقد الإجماع على جملتها من ذهاب إبراهيم وإسماعيل إلى مكة وإن وقع خلاف على التفاصيل. والذين يعرضون لتفاصيل حوادثها بالنقد يروونها على أن هاجر ذهبت بإسماعيل إلى الوادي الذي به مكة اليوم، وكانت به عيون أقامت جرهم عندها، فنزلت هاجر منهم أهلا وسهلا لما جاء إبراهيم بها وبابنها. فلمّا شبّ إسماعيل تزوّج جرهميّة ولدت له أولاده. وكان لهذا التلاقح بين إسماعيل العبريّ المصريّ وبين هؤلاء العرب ما جعل ذريته على جانب من العزم وقوة البأس والجمع بين فضائل العرب والعبريين والمصريين. أما ما ورد عن حيرة هاجر لما نضب الماء منها، وعن سعيها سبعا بين الصفا والمروة، وعن زمزم وكيف نبع الماء منها، فموضع شك عندهم.
ويرتاب وليم موير في ذهاب إبراهيم وإسماعيل إلى الحجاز وينفي القصة من أساسها، ويذكر أنها بعض الإسرائيليات ابتدعها اليهود قبل الإسلام بأجيال ليربطوا بها بينهم وبين العرب بالاشتراك في أبوّة إبراهيم لهم أجمعين، أن كان إسحاق أبا لليهود. فإذا كان أخوه إسماعيل أبا العرب فهم إذا أبناء عمومة توجب على العرب حسن معاملة النازلين بينهم من اليهود، وتيسر لتجارة اليهود في شبه الجزيرة. ويستند المؤرّخ الإنكليزي في رأيه هذا إلى أن أوضاع العبادة في بلاد العرب لا صلة بينها وبين دين إبراهيم لأنها وثنيّة مغرقة في الوثنية، وكان إبراهيم حنيفا مسلما. ولسنا نرى مثل هذا التعليل كافيا لنفي واقعة تاريخيّة. فوثنية العرب بعد موت إبراهيم وإسماعيل بقرون كثيرة لا تدلّ على أنهم كانوا كذلك حين جاء إبراهيم إلى الحجاز وحين اشترك وإسماعيل في بناء الكعبة. ولو أنها كانت وثنيّة يومئذ لما أيّد ذلك سير موير؛ فقد كان قوم إبراهيم يعبدون الأصنام وحاول هو هدايتهم فلم ينجح. فإذا دعا العرب إلى مثل ما دعا إليه قومه فلم ينجح وبقي العرب على عبادة الأوثان لم يطعن ذلك في ذهاب إبراهيم وإسماعيل إلى مكة. بل إن المنطق ليؤيد رواية التاريخ. فإبراهيم الذي خرج من العراق فارّا من أهله إلى فلسطين وإلى مصر، رجل ألف الارتحال وألف اجتياز الصحارى؛ والطريق ما بين فلسطين ومكة كان مطروقا من القوافل منذ أقدم العصور؛ فلا محلّ إذا للريبة في واقعة تاريخية انعقد الإجماع على جملتها.
والسير وليم موير والذين ارتأوا في هذه المسألة رأيه يقولون بإمكان انتقال جماعة من أبناء ابراهيم وإسماعيل بعد ذلك من فلسطين إلى بلاد العرب واتصالهم وإياهم بصلة النسب. وما ندري، وهذا الإمكان جائز عندهم في شأن أبناء إبراهيم وإسماعيل، كيف لا يكون جائزا في شأن الرجلين بالذات! وكيف لا يكون ثابتا قطعا ورواية التاريخ تؤكده! وكيف لا يكون بحيث لا يأتيه الريب وقد ذكره القرآن وتحدّثت به بعض الكتب المقدّسة الآخرى!.