الألوان من ورائها الأحراش والغابات الخضر والأنهار ذات اللون الفضيّ. ومع ما كان من انصراف شيرويه إلى مسرّاته، ظلّت فارس محتفظة بمجدها، وظلت المنافس القويّ لسلطان بزنطية ولانتشار المسيحية، وإن آذن اعتلاء شيرويه عرشها بأفول هذا المجد ومهّد المسلمين من بعد غزوها ونشر الإسلام فيها.
هذا النزاع الذي كانت اليمن مسرحه منذ القرن الرابع المسيحي كان عميق الأثر في تاريخ شبه جزيرة العرب من جهة توزيع سكانها: فلقد قيل إن سدّ مأرب الذي غيّر الحميريون الطبيعة به لفائدة بلادهم، قد طغى عليه سيل العرم فحطمه؛ لأن هذه المنازعات المستمرة صرفت الناس وصرفت الحكومات المتعاقبة عن تعهّده والاستمرار في تقويته، فضعف فلم يقو على صدّ هذا السيل. وقيل: إن ملك الروم لمّا رأى اليمن موطن نزاع بينه وبين فارس، وأن تجارته مهدّدة من جرّاء هذا النزاع، جهز أسطولا يشقّ البحر الأحمر ما بين مصر وبلاد الشرق البعيدة ليجلب التجارة التي تحتاج إليها بزنطية، ويستغني بذلك عن طريق القوافل. ويذكر المؤرّخون واقعة يتفقون عليها ويختلفون في السبب الذي أدّى إليها. هذه الواقعة هي هجرة أزد اليمن إلى الشّمال، فكلهم يقول بهذه الهجرة، وإن نسبها بعضهم إلى إقفار كثير من مدائن اليمن بسبب اضمحلال التجارة التي كانت تمر بها، وعزاها آخرون إلى انقطاع سد مأرب واضطرار كثير من القبائل إلى الهجرة مخافة الهلاك. وأيّا ما كانت الحقيقة فهذه الهجرة هي السبب في اتصال اليمن بسائر العرب، اتصال نسب واختلاط ما يزال الباحثون يحاولون اليوم تحديده.
إذا كان النظام السياسي قد اضطرب في اليمن على نحو ما رأيت بسبب الظروف التي مرّت بلاد الحميريين بها، والغزوات التي كانت تلك البلاد ميدانا لها، فقد كان هذا النظام السياسي غير معروف في سائر بلاد شبه الجزيرة. وكل نظام يمكن أن يوصف بأنه نظام سياسيّ، على المعنى الذي نفهمه نحن اليوم أو الذي كانت الأمم المتحضرة تفهمه في تلك الأيام، كان مجهولا في ربوع تهامة والحجاز ونجد وتلك المساحات الشاسعة التي منها كانت تتكون بلاد العرب. فقد كان أبناؤه، كما لا يزال أكثرهم حتى اليوم، أهل بادية لا يألفون الحضر، ولا يطيب لهم المقام ولا الاستقرار بأرض، ولا يعرفون غير دوام الارتحال والنقلة طلبا للمرعى وإرضاء لهوى نفوسهم التي لم تعرف غير حياة البادية ولا تطيق حياة غيرها. وأساس حياة البادية، حيث وجدت من بقاع الأرض، إنما هي القبيلة. والقبائل الدائمة التّجول والتّرحال لا تعرف قانونا كالذي نعرف، ولا تخضع لنظام كالذي نخضع له، ولا تصبر على ما دون الحرّية كاملة للفرد وللأسرة وللقبيلة كلها. وأهل الحضر يرضون النزول باسم النظام عن جانب من حريتهم للمجموع أو للحاكم المطلق مقابل ما ينعمون به من طمأنينة ورخاء. أمّا رجل البادية الزاهد في الرخاء، البرم بطمأنينة الاستقرار، فلا يخدعه عن شيء من حريته الكاملة رجاء فيما يفرح به أهل المدن من جاه أو مال، ولا يرضى بما دون المساواة الكاملة بينه وبين أفراد قبيلته جميعا وبين قبيلته وغيرها من القبائل. وإنما ينتظم حياته ما ينتظم سائر الخلق من حب البقاء والحرص عليه والدفاع عنه، على أن يكون ذلك كله متفقا مع قواعد الشرف التي تمليها عليه حياة البادية الحرة لذلك لم يكن أهل هذه البادية يقيمون على ضيم يراد بهم، بل كانوا يدفعونه بقوتهم، فإن لم يستطيعوا دفعه تخلوا عن مواطنهم وارتحلوا عن شبه الجزيرة كلها إذا لم يكن من هذا الإرتحال بدّ. ولذلك لم يكن شيء أيسر عند هذه القبائل من القتال إذا نبت خلاف لم يتيسّر في ظلال قواعد الكرامة والمروءة والشرف الفصل فيه.