وليس يرجع ذلك إلى متاخمتها الخليج الفارسي أو المحيط الهندي أو البحر وكفى، ولكنه يرجع قبل ذلك وأكثر منه إلى أنها لم تكن كسائر شبه الجزيرة صحراوية جرداء لا تلفت العالم ولا تجعل لدولة من صداقتها فائدة ولا لمستعمر فيها مطمعا، بل كانت على الضد من ذلك موطن خصب في الأرض ومطر منتظم الفصول حضارة مستقرّة ذات مدائن عامرة ومعابد قوية على نضال الزمان. وكان سكّانها من بني حمير ذوي فطنة وذكاء وعلم هداهم إلى حسن الاستفادة من الأمطار حتى لا تتسرّب إلى البحر فوق الأرض المنحدرة إلى ناحيته؛ ولذلك أقاموا سدّ مأرب، فحوّلوا اتجاه المياه الطبيعي تحويلا تقتضيه حياة الحضارة والاستقرار، فقد كانت الأمطار، إلى أن أقيم هذا السدّ تنزل بجبال اليمن المرتفعة، ثم تنحدر في أودية واقعة إلى شرق مدينة مأرب وكانت في انحدارها الأوّل تنزل بين جبلين يقومان عن جانب هذه الأودية يفصل بينهما أربعمائة متر تقريبا؛ بلغت مأرب انفرج الوادي انفراجا تضيع المياه فيه كما تضيع في منطقة السدود بأعالي النيل. فلما هدى العلم والذكاء أهل اليمن إلى إقامة سدّ مأرب شيد بالحجر عند مضيق الوادي، وجعلت له فتحات يمكن تصريف المياه منها وتوزيعها إلى حيث يشاء الناس لتروي الأرض وتزيدها خصبا وإثمارا.
وإن ما كشف وما يزال يكشف عنه حتى اليوم من آثار هذه الحضارة الحميرية في اليمن ليدلّ على أنها بلغت في بعض العصور مكانا محمودا، وأنها ثبتت لقسوة الزمان في عصور قسا على اليمن فيها الزمان.
على أن هذه الحضارة وليدة الخصب والاستقرار جلبت على اليمن من الأذى ما منع الجدب منه أواسط شبه الجزيرة. فقد ظلّ ملك اليمن في بني حمير يتوارثونه حينا ويثب عليه حميريّ من الشعب حينا آخر حتى ملكهم ذي نواس الحميري. وكان ذو نواس هذا ميالا إلى دين موسى، راغبا عن الوثنية التي تورّط فيها قومه، وكان قد أخذ هذا الدين عن اليهود الذين هاجروا إلى اليمن وأقاموا بها. وذو نواس الحميري هذا هو، فيما يذكر المؤرخون صاحب قصة أصحاب الأخدود التي نزل فيها قوله تعالى: (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ. النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ. إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ. وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ. وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (?) . وخلاصة هذه القصة أن رجلا صالحا من أتباع عيسى يدعى قيميون، كان قد هاجر من بلاد الروم واستقرّ بنجران، فاتّبعه أهلها لما رأوا من صلاحه وظل عددهم يزداد حتى استفحل أمرهم. فلما نمى خبرهم إلى ذي نواس سار إلى نجران، ودعا أهلها إلى الدخول في اليهودية أو يقتلوا. فلما أبوا شقّ لهم أخدود أوقد فيه النار ثم ألقي بهم فيها، ومن لم يمت بالنار قتل بالسيف ومثل به. وقد هلك منهم، على رواية كتب السيرة، عشرون ألفا. ثم إن أحد هؤلاء النصارى فرّ من القتل ومن ذي نواس وسار حتى أتى قيصر الروم جوستنيان فاستنصره على ذي نواس. ولما كانت الروم بعيدة عن اليمن كتب القيصر إلى النجاشي ليأخذ بالثأر من ملك اليمن. ويومئذ (في القرن السادس الميلادي) كانت الحبشة والنجاشي على رأسها في ذروة مجدها تجري بأمرها على البحار تجارة واسعة، ويمخر لها العباب أسطول قوي (?) يجعلها تتسلط بنفوذها على ما حاذاها