من حقائق الحياة، ويجب لذلك أن يتجنب من يدرس التاريخ سلطان الهوى وحكم المزاج. ولا سبيل إلى تجنبها إلا أن يتقيّد الإنسان بالطريقة العلمية أدق التقيد، وألّا يجعل من العلم والبحوث العلمية في التاريخ أو غير التاريخ مطيّة لإثبات هوى من أهوائه أو نزوة من نزوات مزاجه.
ولقد تأثر كثير من المستشرقين في بحوثهم التي صيغت صيغة العلم بأهواء أمزجتهم، وكذلك فعل كثيرون من كتاب المسلمين، واعجب الأمر في هؤلاء وأولئك أن يتخذ كلّ تزينه نزوات مزاج الآخر من الوقائع ما يقيمه أساسا لكتابة يزعمها علمية ابتغى بها وجه الحق، في حين هو يتأثر فيها بمزاجه وبهواه أشد التأثر.
ودليل ذلك أنه لو كلّف نفسه بعض الجهد في تمحيص ما كتب الآخر تمحيصا نزيها لتداعت أمام نظره الوقائع التي أبدعها خيال صاحبه. ولو أنه فعل وتجرّد جهد طاقته من هوى نفسه، وتحصّن بقواعد العلم وطرائقه، لكانت كتاباته أبقى في النفوس أثرا على خلاف الكتابة التي يدفع إليها الهوى. وقد حاولت أن أبيّن شيئا من أخطاء هؤلاء وأولئك، في هذا التقديم للطبعة الثانية، متوخيا في ذلك ما اقتضاه المقام من إيجاز غاية الإيجاز. ولعلّي وفقت لبعض ما قصدت إليه من نزاهة وإنصاف.
ليس من اليسير أن يقوم المستشرقون في بحوثهم الإسلامية بكل هذه الدقة وهذا الإنصاف، مهما تحسن نيتهم ومهما يتحرّوا الدقة العلمية. فعسير عليهم أن يحيطوا بكل أسرار اللغة العربية وإن أحاطوا بعلومها. ثم إنهم متأثرون بالنصرانية الأوروبية تأثرا يجعل أكثرهم ينظرون إلى الأديان نظرة تملؤها الريبة، ويجعل الأقلين المستمسكين بمسيحيتهم يتأثرون بما كان بين المسيحية والعلم من نضال، فيخضعون في بحوثهم الإسلامية لمثل ما خضع له أمثالهم في بحوثهم المسيحية أو في بحوثهم الدينية بوجه عام، أقصد التأثر بهذا النضال الهدام. وهذا أمر لا يعاب به المستشرقون المنصفون؛ فلن يستطيع أحد من الناس أن يتحرر من حكم بيئته الزمانية والمكانية.
لكنه يجعل بحوثهم في الأمور الإسلامية تشوبها شوائب تنأى عن الحق ولو بمقدار. ومن شأن ذلك أن يلقي على عاتق العلماء من أهل البلاد الإسلامية، سواء منهم المشتغلون بالعلوم الدينية والمشتغلون بغيرها من العلوم، هذا العبء الجليل العظيم؛ عبء القيم بهذه المباحث الإسلامية بدقة ونزاهة في حدود الطريقة العلمية، فإذا فعلوا مستعينين بمعرفتهم أسرار اللغة العربية والحياة العربية، فسيكون لبحوثهم من الأثر أن تعدل بالمستشرقين، أو ببعضهم على الأقل، عن كثير من الآراء وتقنعهم بالنتائج التي وصل إليها علماء البلاد الإسلامية عن طمأنينة نفس وطيب خاطر.
وليس الوصول إلى هذه النتائج بالأمر الهين؛ فهو يحتاج إلى جلد ومثابرة في البحث والموازنة والتفكير الحرّ، لكنه ليس كذلك بالأمر المستحيل ولا بالأمر العسير. وهو بعد أمر جليل الخطر عظيم الأثر في مستقبل الإسلام وفي مستقبل الإنسانية كلها. وعندي أن القيام به على وجه صالح يقتضي التفريق بين فترتين مختلفتين من تاريخ الإسلام: أولاهما من بدء الإسلام إلى مقتل عثمان. والثانية من مقتل عثمان إلى أن أقفل باب الإجتهاد؛ ففي الفترة الأولى بقي اتفاق المسلمين تامّا؛ لم تغيّر منه روايات الاختلاف على الخلافة، ولا غيّرت منه حروب الردّة ولا فتح المسلمين للبلاد التي فتحوا. أمّا بعد مقتل عثمان فقد دبّ الخلاف بين المسلمين وقامت الحروب الأهليّة بين عليّ ومعاوية واستمرّت الثورات، ظاهرة تارة خفية أخرى، ولعبت الأهواء السياسية دورا خطيرا في الحياة الدينية نفسها. وحسب الإنسان، ليقدر هذا الخلاف، أن يوازن بين المبادئ التي ينطوي عليها خطاب أبي بكر بعد بيعته حين يقول: «أمّا بعد، أيها الناس، فإني قد وليت عليكم، ولست