بل التمسه في خلق هذا الكون الفسيح الأرجاء الذي يقصر تصوّرنا دون إدراك حدوده في الزمان أو في المكان، وتجري أموره مع ذلك على سنن لا تحويل لها ولا تبديل، فاهتدى من سنّة الله في الكون إلى بارئه ومصوّره.
سواء عند هذين أكانت الخوارق أم لم تكن، بل هما لا يفكران في هذه الخوارق إلا على أنها من آيات فضل الله. ومثل هذا الإيمان يراه الكثيرون من أئمة المسلمين مثلا أسمى في الإيمان، ويذهب بعضهم كذلك إلى أن الإيمان الصحيح يجب ألّا يكون مصدره خوفا من عقاب الله أو طمعا في ثوابه، بل يجب أن يكون إيمانا خالصا بالله وفناء تاما فيه. إليه يرجع الأمر كله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
مثل الذين يؤمنون اليوم بالله ورسوله من غير أن تحملهم المعجزات على الإيمان، كمثل الذين آمنوا بالله ورسوله في حياة النبيّ العربيّ. فلم يذكر التاريخ أن المعجزات حملت أحدا منهم على أن يؤمن؛ بل كانت حجة الله البالغة عن طريق الوحي على لسان نبيه، وكانت حياة النبيّ، في سموّها البالغ غاية السمو، هي التي دعت إلى الإيمان من آمن منهم. وإن كتب السيرة جميعا لتذكر أن طائفة من الذين آمنوا برسالة محمد قبل الإسراء قد ارتدّت عن إيمانها حين ذكر النبيّ أن الله أسرى به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله. ولم يؤمن سراقة بن جعشم، لمّا اتّبع محمدا حين هجرته إلى المدينة ليأتي أهل مكة به حيّا أو ميتا طمعا في مالهم، على رغم ما روت كتب السيرة من معجزة الله في سراقة وفي جواده. ولم يذكر التاريخ أن مشركا آمن برسالة محمد لمعجزة من المعجزات، كما آمن سحرة فرعون لمّا لقفت عصا موسى ما صنعوا.
ثم إن ما ورد في كتب السيرة والحديث عن المعجزات قد اختلف فيه أحيانا. وقد كان على الرغم من ثبوته في كتب الحديث موضع النقد أحيانا أخرى وقد أشرنا إلى مسألة الغرانيق في هذا التقديم وذكرناها مفصلة في الكتاب. وقصة شق الصدر قد وقع الاختلاف فيها على ما روته حليمة ظئر النبي عنها لأمه، كما وقع على الزمن الذي حدثت فيه من سنّ محمد. وما روت كتب السيرة وكتب الحديث عن قصة زيد وزينب مردود من أساسه، للأسباب التي أبديناها عند الكلام عن هذه القصة في أثناء الكتاب. وقد وقع مثل هذا الاختلاف على ما حدث أثناء مسيرة جيش العسرة إلى تبوك؛ فقد روى مسلم في صحيحه عن معاذ بن جبل أنّ النبي قال لمن سار معه إلى تبوك: إنكم ستأتون إن شاء الله غدا عين تبوك وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار: فمن جاءها منكم فلا يمسّ من مائها شيئا حتى آتى. فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان والعين مثل الشراك تبضّ بشيء من ماء. قال: فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلّم: هل مسستما من مائها شيئا! قالا: نعم. فسبّهما النبي صلى الله عليه وسلّم وقال لهما ما شاء الله أن يقول. قال: ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلا قليلا حتى اجتمع في شيء. قال: وغسل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيه يديه ووجهه ثم أعاده فيها فجرت العين بماء منهمر- أو قال غزير، شك أبو عليّ أيهما قال- حتى استقى الناس. ثم قال: يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما ها هنا مليء جنانا» (?) فأما كتب السيرة فتروي قصة تبوك على صورة أخرى لا يرد فيها ذكر المعجزة، وإنما تجري فيها الرواية على نحو غير ما ورد في صحيح مسلم. من ذلك ما رواه عنها ابن هشام إذ قال:
«قال ابن إسحاق: فلما أصبح الناس ولا ماء معهم شكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم،