أمم وطوائف ما كان العقل يسيغ إمكان التأليف بينها؛ وظهرت الحكمة والرصانة وبعد النظر وكمال الفطنة وسرعة الخاطر وقوّة الحزم في كل ما صدر عنه من قول أو فعل، وتفجّرت منه ينابيع العلم والمعرفة، وينابيع البلاغة التي يطأطئ البلغاء رؤوسهم أمامها إجلالا وهيبة؛ وفارق الدنيا وهو راض عن عمله مرضيّ من الله ومن المسلمين.
وكل هذه النواحي تستحق الدرس والتمحيص، وليس في مقدور شخص واحد أن يفيها حقها، بل ليس في مكنة شحص واحد أن يوفي على الغاية في ناحية من هذه النواحي.
وسيرة محمد صلوات الله عليه وعلى آله، كسائر العظماء، أضيف إليها ما ليس منها، إما عن حب وهوى وحسن قصد، وإما عن سوء قصد وحقد. غير أنها تمتاز عن سائر العظماء جميعهم بأن منها شيئا كثيرا ضمه الوحي الإلهي وضمن حفظه القرآن المطهر، وشيئا كثيرا روي على لسان الحفاظ الثقات من المحدّثين، وعلى هذه الأسس الصحيحة يجب أن تبنى السيرة، وأن يستنبط العلماء منها حكمها وأسرارها ودقائقها، وأن تحلل التحليل العلمي النزيه، ملاحظا في ذلك ظروف الوسط وحال البيئة ونواحيها المختلفة من عقائد ونظم وعادات.
وقد أخرج الدكتور هيكل للناس كتابه «حياة محمد» في سيرة محمد صلى الله عليه وسلّم، ويسرّ لي أن أطّلع على جزء منه قبل إتمام طبعه. والدكتور هيكل معروف لقراء اللغة العربية، غنيّ باثاره فيها عن التعريف. وقد درس القانون واطلع على المنطق والفلسفة، ومكّنته ظروفه وطبيعة عمله من الاتصال بالثقافة القديمة والثقافة الحديثة وأوفى منهما على حظ عظيم، وناظر وجادل وهجم ودافع في المعتقدات والآراء وقواعد الاجتماع وفي السياسة وغيرها، فنضج عقله وكمل علمه وأتّسع اطلاعه وامتدّ أفقه، فأصبح يدافع عن آرائه بمنطق قويّ وحجج باهرة وأسلوب أختص به لا تخفي نسبته إليه. بهذه الثقافة وهذه القوّة نسج الدكتور كتابه وقال في مقدّمته: «لست مع ذلك أحسب أني أوفيت على الغاية من البحث في حياة محمد؛ بل لعلي أكون أدنى إلى الحق إذا ذكرت أني بدأت هذا البحث في العربية على الطريقة الحديثة. وقد تأخذ القارئ الدهشة إذا ذكرت ما بين دعوة محمد والطريقة العلمية الحديثة من شبه قوىّ. فهذه الطريقة العلمية تقتضيك إذا أردت بحثا أن تمحو من نفسك كل رأي وكل عقيدة سابقة في هذا البحث، وأن تبدأ بالملاحظة والتجربة، ثم بالموازنة والترتيب، ثم بالاستنباط القائم على هذه المقدمات العلمية. فإذا وصلت إلى نتيجة من ذلك كله كانت نتيجة علمية خاضعة بطبيعة الحال للبحث والتمحيص، ولكنها تظل علمية ما لم يثبت البحث العلمي تسرب الخطأ إلى ناحية من نواحيها.
وهذه الطريقة العلمية هي أسمى ما وصلت إليه الإنسانية في سبيل تحرير الفكر، وها هي ذي مع ذلك طريقة محمد وأساس دعوته» .
أمّا أن هذه الطريقة طريقة القرآن فذلك حق لا ريب فيه؛ فقد جعل العقل حكما والبرهان أساس العلم، وعاب التقليد وذم المقلّدين، وأنّب من يتبع الظن وقال: «إن الظّنّ لا يغني من الحقّ شيئا» وعاب تقديس ما عليه الآباء، وفرض الدعوة بالحكمة لمن يفقهها. ولم تكن معجزة محمد صلى الله عليه وسلّم القاهرة إلا في القرآن، وهي معجزة عقلية. وما أبدع قول البوصيري:
لم يمتحنّا بما تعيا العقول به ... حرصا علينا، فلم نرتب ولم نهم
وأما أن هذه الطريقة حديثة فهذا ما يعتذر عنه. وقد ساير الدكتور غيره من العلماء في هذا. لأنها طريقة القرآن كما اعترف هو، ولأنها طريقة علماء سلف المسلمين. أنظر كتب الكلام تراهم يقررون أن أوّل واجب على المكلف معرفة الله، فيقول آخرون: لا، إن أوّل واجب هو الشك. ثم إنه لا طريق للمعرفة إلا