جهد فيه جامعوه الأوّلون ما جهدوا، فما بالك بما ورد في المتأخر من كتب السيرة؟ وكيف يستطاع الأخذ به دون التدقيق العلمي في تمحيصه!

أثر المنازعات السياسية الإسلامية

والواقع أن المنازعات السياسية التي حدثت بعد الصدر الأوّل من الإسلام أدّت إلى اختلاق كثير من الروايات والأحاديث تأييدا لها. فلم يكن الحديث قد دوّن إلى عهد متأخر من عصر الأمويين. وقد أمر عمر بن عبد العزيز بجمعه، ثم لم يجمع إلا في عهد المأمون بعد أن أصبح «الحديث الصحيح في الحديث الكذب كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود» على قول الدارقطنيّ. ولعل الحديث لم يجمع في الصدر الأوّل من الإسلام لما كان يروى عن النبي أنه قال: «لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن. ومن كتب شيئا غير القرآن فليمحه» . على أن أحاديث النبيّ كانت متداولة على الألسن من يومئذ، وكانت الروايات تختلف فيها. ولقد أراد عمر بن الخطاب أثناء خلافته أن يتدارك الحال في ذلك بأن يكتب السنن؛ فاستفتى أصحاب النبي في ذلك فأشاروا عليه بأن يكتبها. فطفق عمر يستخير الله شهرا، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له (?) فقال: «إني كنت أريد أن أكتب السنن وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدا» وعدل عن كتابتها، وكتب في الأمصار عنها:

«من كان عنده شيء فليمحه» . وظلّت الأحاديث بعد ذلك تتوالد وتتداول، حتى جمع ما صح لدى الجامعين منها في عهد المأمون.

ومع ما أبداه جامعو الحديث من حرص على الدقّة لا ريب فيه، فقد جرّح بعض العلماء كثيرا من الأحاديث التي أثبتها جامعوها على أنها صحيحة. قال النوويّ في شرح مسلم: «استدرك جماعة على البخاري ومسلم أحاديث أخلّاد بشرطهما فيها ونزلت عن درجة ما التزماه» . ذلك أن الجامعين قد جعلوا مقياس السّند والثقة بالرواية أساسهم في قبول الحديث أو رفضه؛ وهو مقياس له قيمته؛ لكنه وحده غير كاف. وعندنا أنّ خير مقياس يقاس به الحديث، وتقاس به سائر الأنباء التي ذكرت عن النبيّ، ما روي عنه عليه السلام أنه قال: «إنكم ستختلفون من بعدي، فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله. فما وافقه فمني، وما خالفه فليس عني» . وهذا مقياس دقيق أخذ به أئمة المسلمين منذ العصور الأولى، وما زال المفكرون منهم يأخذون به إلى يومنا الحاضر. قال ابن خالدون: «وإنني لا أعتقد صحة سند حديث ولا قول عالم صحابيّ يخالف ظاهر القرآن وإن وثّقوا رجاله؛ فرب راو يوثّق للاغترار بظاهر حاله وهو سيء الباطن. ولو انتقدت الروايات من جهة فحوى متنها، كما تنتقد من جهة سندها، لقضت المتون على كثير من الأسانيد بالنقض. وقد قالوا: إن من علامة الحديث الموضوع مخالفته لظاهر القرآن أو القواعد المقررة في الشريعة أو البرهان العقلي أو للحس والعيان وسائر اليقينيات» . وهذا المقياس الذي جاء في حديث النبي، والذي ذكره ابن خالدون فيما تقدّم، يتفق مع قواعد النقد العلمي الحديث أدقّ اتفاق.

ومن الحق أن المسلمين قد بلغ اختلافهم بعد وفاة النبي حدّا دعا الدعاة فيهم إلى اختلاق الآلاف المؤلفة من الأحاديث والروايات. ومنذ قتل أبو لؤلؤة غلام المغيرة عمر بن الخطاب، ومنذ تولّى عثمان بن عفان الخلافة، بدأت الخصومة التي كانت بين بني هاشم وبني أمية قبل رسالة النبيّ العربي تظهر من جديد. فلما قتل عثمان وقامت الحرب الأهليّة بين المسلمين وخاصمت عائشة عليّا وأيّد عليّا من أيّد، بدأت الأحاديث الموضوعة تكثر إلى حد أنكره عليّ بن أبي طالب، حتى روي عنه أنه قال: «ما عندنا كتاب نقرؤه عليكم إلا ما في القرآن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015