ويقول جلّ شأنه: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (?) .

أين هذا مما يسود العالم اليوم باسم الحضارة الغربية، من تعصب للقومية وللدين وما يجرّه هذا التعصب من حروب وكوارث!

حياة محمد وسموها

هذا الروح السامي في تسامحه هو الذي يجب أن يسود العالم إذا أريد أن تستقر في العالم كلمة السلام ليسعد الناس به. وهذا الروح هو الذي يجعل كل دراسة لحياة من أوحى الله هذا الكلام إليه، دراسة علمية خالصة لوجه العلم وحده، جديرة بأن تجلو أمام العلم من المسائل النفسية والروحية ما يهدي الإنسانية طريقها إلى الحضارة الجديدة التي تلتمسها. وكل تعمق في هذه الدراسة يكشف عن أسرار كثيرة ظن الناس زمنا أن لا سبيل إلى تعليلها تعليلا علميّا، ثم إذا مباحث علم النفس تفسرها وتجلوها واضحة للمتعقلين. فحياة محمد، كما رأيت، حياة إنسانية بلغت من السموّ غاية ما يستطيع إنسان أن يبلغ، وكانت لذلك أسوة حسنة لمن هداه القدر أن يحاول بلوغ الكمال الإنساني من طريق الإيمان والعمل الصالح. أيّ سموّ في الحياة كهذا السموّ الذي جعل حياة محمد قبل الرسالة مضرب المثل في الصدق والكرامة والأمانة، كما كانت بعد الرسالة كلها التضحية في سبيل الله وفي سبيل الحق الذي بعثه الله به، تضحية استهدفت حياته من جرائها للموت مرّات، فلم يصده عنه أن أغراه قومه، وهو في الذروة منهم حسبا ونسبا، بالمال وبالملك وبكل المغريات!

بلغت هذه الحياة الإنسانية من السموّ ومن القوّة ما لم تبلغه حياة غيرها، وبلغت هذا السموّ في نواحي الحياة جميعا. وما بالك بحياة إنسانية اتصلت بحياة الكون من أزله إلى أبده، واتصلت بخالق الكون بفضل منه ومغفرة! ولولا هذا الاتصال، ولولا صدق محمد في تبليغ رسالة ربه، لرأينا الحياة على كر الدهور تنفي مما قال شيئا. لكن ألفا وثلثمائة وخمسين سنة انقضت وما يزال بلاغ محمد عن ربه آية الحق والهدى. وبحسبنا على ذلك مثلا واحدا نضربه: ذلك ما أوحى الله إلى محمد أنه خاتم الأنبياء والمرسلين. انقضت أربعة عشر قرنا لم يقل أحد خلالها إنه نبيّ أو إنه رسول رب العالمين فصدّقه الناس. قام في العالم أثناء هذه القرون رجال تسنّموا ذروة العظمة في غير ناحية من نواحي الحياة فلم توهب لأحدهم هبة النبوّة والرسالة. ومن قبل محمد كانت النبوّات تتواتر والرسل يتتابعون فينذر كلّ قومه أنهم ضلّوا ويردّهم إلى الدين الحق، ولا يقول أحدهم إنه أرسل للناس كافة أو إنه خاتم الأنبياء والمرسلين، أمّا محمد فيقولها فتصدّق القرون كلامه. ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وهدى ورحمة للعالمين.

وغاية ما أرجو أن أكون قد وفقت لما قصدت إليه من هذا البحث، وأن أكون قد مهّدت به السبيل إلى مباحث في موضوعه أكثر استفاضة وعمقا. ولقد بذلت من الجهد في ذلك ما وسعته طاقتي وما يسرّه الله لي.

(لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (?) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015