اللفظية ويقدروا قيمة الحديث: «إنّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، فإن المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» . فقد ذكر أبو البقاء في «كليّاته» أن «كتابة الصلاة في أوائل. الكتب قد حدثت في أثناء الدولة العباسية، ولهذا وقع كتاب البخاريّ وغيره عاريا عنها» . وكثرة الأئمة على أن الصلاة على النبي يكفي أن يذكرها المرء مرة واحدة في حياته. قال ابن نجيم في «البحر الرائق» : وأما موجب الأمر في قوله تعالى:
(صَلُّوا عَلَيْهِ) فهو افتراضها في العمر مرة واحدة في الصلاة أو خارجها؛ لأن الأمر لا يقتضي التكرار، وهذا بلا خلاف» . والخلاف بين الشافعي وغيره على وجوب الصلاة على النبي أثناء الصلاة لا خارجها. والصلاة هي الدعاء: ومعناها في الآية أن يترحم الله على النبي ويسلّم» . هذا ما أورده علماء المسلمين وأئمتهم في هذا الموضوع. وهو يدلّ على إسراف الذين يزعمون وجوب الصلاة على النبي كلما ذكر اسمه وكلما كتب، وعلى خطئهم خطأ ما كانوا يقعون فيه إذا عرفوا ما قدمنا وأن كبار المحدثين لم يكونوا يكتبون الصلاة في أوائل الكتب.
أما الذين قالوا بأن مقام النبي الكريم يوجب عدم ذكر مطاعن المستشرقين والمبشرين عليه مقدمة للرد عليها، فلا سند لهم في قولهم هذا إلا عاطفة إسلامية يحمدون عليها؛ أما من الناحيتين العلمية والدينية فلا سند لهم، والقرآن الكريم يذكر ما كان يقول المشركون عن النبي ويدفعه بالحجة البالغة. هذا، وأدب القرآن أقوم أدب وأسماه؛ فهو يذكر اتهام قريش محمدا بالسحر والجنون، وهو يقول: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (?) . وهو يجري في ذلك بالشيء الكثير. ثم إن الحجة لا تدفع علميّا إلا إذا ذكرت ودوّنت بأمانة ودقة. ولقد قصدت من هذا الكتاب إلى البحث العلمي توخيا للحقيقة العلمية وحدها. وقصدت به إلى أن يقرأه المسلمون وغير المسلمين آملا أن أقنعهم جميعا بهذه الحقيقة العلمية. ولا تبلغ هذه الغاية إلا إذا كان الباحث نزيها في حرصه على الحقيقة، لا يتقيد بإعتبار غير هذا الحرص، ولا يتردد في الاعتراف بالحق أيّا كان مصدره.
ونعود إلى المأخذ الأول، الذي أخذه عليّ بعض المشتغلين بالعلوم الدينية الإسلامية في رفق ومجادلة بالتي هي أحسن. ذلك قولهم إنني لم آخذ بما سجلته كتب السيرة وكتب الحديث، ولم أنهج في التعبير عن مختلف الحوادث نهجها. ولقد كان يكفيني ردّا على هذا أنني أجري في هذا البحث على الطريقة العلمية الحديثة وأكتبه بأسلوب العصر، وأنني أفعل ذلك لأنه الوسيلة الصالحة في نظر المعاصرين لكتابة التاريخ وغير التاريخ من العلوم والفنون. وما كان لي، وذلك شأني، أن أتقيد بنهج الكتب القديمة وأساليبها، وبين هذين وبين النهج والأساليب في عصرنا الحاضر بون عظيم؛ أيسره أن النقد في الكتب القديمة لم يكن مباحا بالقدر الذي يباح به اليوم، وأن كثرة الكتب القديمة كانت تكتب لغاية دينية تعبدية، على حين يتقيد كتاب العصر الحاضر بالنهج العلمي والنقد العلمي. كان يكفيني هذا تسويغا للطريقة التي عالجت بها بحثي ودفعا لكل اعتراض عليه، لكني رأيت من الخير أن أتبسّط بعض الشيء في بيان الأسباب التي دعت المفكرين من أئمة المسلمين فيما مضى، وتدعوهم اليوم، كما تدعو كل باحث مدقق، إلى عدم الأخذ جزافا بكل ما ورد في كتب السيرة وفي كتب الحديث، وإلى التقيد بقواعد النقد العلمي تقيدا يعصم من الزلل ما استطاع الإنسان أن يعصم نفسه منه.