هذه الحجج التي قدّمت تدحض ما أوّل به المستشرقون الجبريّة الإسلامية، وما أوّلوا به ما جاء في القرآن عن القضاء والقدر وكتاب الأجل. وهي تثبت بوجه لا يحتمل أيّ ريب، أن الإسلام دين سعي وكفاح وجهاد في نواحي الحياة الروحية والعلمية والدينية والدنيوية جميعا، وأن الله كتب في سنّة الكون أن الإنسان إنما يجزى بعمله، وأنه جلّ شأنه لا يظلم أحدا ولكن الناس أنفسهم يظلمون. وهم يظلمون أنفسهم حين يظنون أنهم يصلون إلى رضا الله بالقعود والتواكل باسم التوكل على الله.
ومع أن هذه الحجج دامغة في الغرض الذي سقتها له، فإنني لا أستطيع أن أغفل حجة أخيرة اعتبرها بالغة؛ تلك هي الحجة المستفادة من قوله تعالى: (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا) (?) .
فليس شيء في الحياة يحفزنا للعمل والسعي كما يحفزنا كسب الرزق وطلب المال. ففي سبيل الله ينفق الأكثرون من الناس أعظم الجهد ويقومون بما يفوق الطاقة أحيانا. ونظرة يلقيها الإنسان على عالمنا الحاضر تنبئ عما يهتز به هذا العالم من دأب ومشقة، ومن سلم وحرب، ومن ثورات واضطرابات، في سبيل المال.
في سبيله تقلب الملوكيات جمهوريات، وفي سبيله تراق الدماء وتزهق الأنفس والبنون! أفلاذ أكبادنا التي تمشي على الأرض، أيّة مشقة لا نحتملها من أجلهم! وأيّ مرّ لا يحلو مذاقه ما دام يؤدي إلى طمأنينتهم وإلى كفالة رخائهم ومجدهم!! كل عسير يصبح في جانب سعادتهم يسيرا، وكل صعب يصبح في سبيل رضاهم سهلا.
بل إن من الناس من يستهين في سبيل المال والبنين بما يحسبه مستحيلا عليه لولا المال والبنون. ومن الناس من يبالغ في ذلك ليضحي في سبيله بهناءته، بل بحياته.
ومع ذلك فالمال والبنون زينة الحياة الدنيا. وليست الزينة شيئا إلى جانب الجوهر. ولا يضحّي بالجوهر في سبيل الزينة إلا الجهلاء والحمقى: إلا المرأة التي تستهين بصحتها لتظهر جميلة سويعة أو سويعات من زمان، وإلا الشابّ المغرور الذي يضحي بعقله وبكرامته وسط صحب يسخرون منه حين يحسب أنه سيدهم لأنه يبعثر بينهم ماله، وإلا أمثال هؤلاء من المأفونين الذين يخدعهم المظهر عن الحقيقة، واليوم عن الغد.
والذين يسعون لزينة الحياة من مال وبنين وينسون ما سواهما ليسوا أقل من هؤلاء أفنا وحمقا. فالمال والبنون زينة. أمّا جوهر الحياة فالباقيات الصالحات من أعمال الخير. ولهذه الباقيات الصالحات يجب أن نبذل من السعي والجهد أكثر مما نبذل لزينة الحياة من مال وبنين.
أرأيت سمو الغاية التي تصوّرها هذه الآية من الذكر الحكيم؟ فأنت إذا بذلت جهودك ودمك في سبيل الزينة؛ وجب أن تبذل روحك وقلبك في سبيل الجوهر، ووجب أن تخضع الزينة للجوهر ووجب لذلك أن تجعل كل حياتك وكل مالك وكل بنيك مقصودا بها هذا الجوهر من الباقيات الصالحات، فهي خير عند ربك ثوابا وخير أملا.
كيف انقلب الأمر في تفكير المسلمين من هذا المنطق السليم الواضح إلى اعتقادات لا تتفق معه في شيء؟
أشرنا إلى ذلك لماما في البحث الأول من هذه الخاتمة حين أشرنا إلى تبدّل الأمر عند المسلمين بحكم الغزاة الذين