حدث من تحريف أتباعهم الكلم عن مواضعه والثانية أن المذهب الفلسفي الإسلامي الذي استنبطته من القرآن قد سبقني إليه غيري، ولكن على نحو غير النحو الذي أقرره اليوم؛ وإنما اهتديت في هذا النحو بهدى القرآن ونهجت فيه نهج الطريقة العلمية الحديثة. فإن وفّقني الله للصواب فله جل شأنه الفضل والمنة. وإن جفاني التوفيق في شيء منه كان من أكبر التحدث بنعمة الله أن يهديناي أولو العلم إلى ما جفاني التوفيق فيه.
وأوّل ما يقرّره القرآن أن لله في الكون سننا ثابتة لا تحويل لها ولا تبديل. والكون ليس أرضنا وما عليها وكفى، ولا هو محصور فيما يقع عليه حسّنا من كواكب وأفلاك، وإنما الكون مجموع ما خلق الله من محسوس وغير محسوس، حاضر وغيب. وحسبك أن تتصوّر هذا لتدرك حقّا أننا لم نؤت من العلم إلا قليلا. فهذا الأثير بيننا وبين الكواكب، وهذه الكهربا التي تملأ الأثير وتملأ أرضنا، وهذه الأبعاد الشاسعة التي تفصل بيننا وبين الشمس وما هو أبعد من الشمس من أفلاك. وما وراء الأفلاك التي تبعد عن الشمس بألوف السنين الضوئية؛ ثم ما وراء ذلك من لا نهايات لا سبيل لخيالنا أن يحيط بها وعند الله علمها- هذا كله يجري على سنّة ثابتة لا تتغيّر. وما مع نعرفه من هذا كله معرفة علمية، على حدّ تعبيرنا اليوم، قليل يختلط فيه الخيال بالواقع، ثم يتضاءل الواقع إلى جانب الخيال حتى يبلغ غاية الضالة، ثم يبقى هذا الواقع مع ذلك غاية ما نعلم وما نقيم عليه أقيستنا وما نقرّر على ضوئه ما نسميه سنن الكون والحياة. ولو أننا أردنا أن نطلق للخيال عنانه لنتصوّر ضالة هذا الذي نعرف لانفسح أمامنا مجال الأمثال بما يضيق عنه هذا المقام. افترض مثلا أن أهل المرّيخ أقاموا عندهم «مذيعا» قوّته مائة مليون كيلوات ليسمعونا أهل الأرض ما يدور عندهم وليرونا إياه من طريق (التليفيزيون) أترانا بعد ذلك نستطيع أن نمسك علينا عقولنا؟ والمرّيخ ليس أبعد الكواكب عنا ولا أشدّها ازورارا عن الاتصال بنا.
وهذا الكون الذي لم نؤت من علمه إلا قليلا يؤثّر كلّ ما فيه في وجود أرضنا وما عليها. فلو أنّ واحدا من هذه الأفلاك اختلف بقدر من الله مداره، لتغيّرت سنّة الكون، ولتغيرت لذلك حياتنا القصيرة الضئيلة المتأثرة بكل ما حولنا، وبأتفه ما حولنا. وهي أكثر تأثرا وخضوعا بطبيعة الكون لعظائم ما في الكون وجلائله.
وهي في تأثرها ذاك قد تسلك سبيل الخير وقد تنحرف عنها. وهي في سلوكها هذه السبيل وفي انحرافها عنها لا تندفع في هذه أو أو تلك من الناحيتين بحكم ما يؤثر فيها من عوامل الحياة وحده، بل بحكم استعدادها كذلك لتلقّي آثار الحياة، وسلطانها على ذاتها في تلقي هذه الآثار. ورب عامل معيّن أثر في نفوس كثيرين آثارا مختلفة، فاندفعت كل واحدة منها إلى ناحية، كانت إحداها الفيصل بين الخير والشر، ثم كانت سائرها درجات نحو الخير ودرجات نحو الشر.
فما في الحياة من خير أو شرّ إنما هو أثر لما يقع بين عوامل الحياة والنفس الإنسانية من تفاعل. ومن ثمّ كان الخير والشر بعض ما في الكون من آثار سننه الثابتة، وكان لذلك من مستلزمات وجوده، كما أن السالب والموجب من مستلزمات وجود الكهربا، وكما أن وجود بعض المكروبات من مستلزمات الحياة لجسم الإنسان.
وليس شيء شرّا لذاته ولا خيرا لذاته، بل للغاية التي يوجّه إليها، وللأثر الذي يترتب عليه. فما يكون شرّا أحيانا يكون ضرورة ملحّة وخيرا محضا أحيانا أخرى. ومن المدمّرات التي تستعمل في الحروب لإهلاك ملايين بني الإنسان وتخريب أبدع ما أقام الناس من الآثار ما له أيام السلم أكبر الفائدة. فلولا الديناميت لتعذّر شق الأنفاق ومدّ السكك الحديدية خلالها؛ ولتعذّر الكشف عن المناجم التي تحتوي أثمن الكنوز وأنفس الأحجار والمعادن. والغازات الخانقة التي يلقي المحاربون قذائفها على الوادعين من أبناء الأمة التي تحاربهم،