إن كان في ترك الابن يجترح من ذلك ما يجترح مزدجر وعبرة لأهله وإخوته، فإذا كان الأهل والإخوة يعدّون بالمئات أو بالألوف في مدينة كثرت فيها أسباب الغواية بطبيعة نواميسها، فمن الخير ومن العدل أن يكون فيما يصيب بعض هؤلاء من الآثار المحتومة جزاء أعمالهم ما تستقيم به أمور هذه الجماعة على أسف منها لما أصاب الظالمين من أبنائها. وهذه أبسط صور العدل على ما نتصوره في جماعتنا الإنسانية، فما بالك بها حين نتصورها بالنسبة للعالم كله وملايين الملايين من خلائقه في لا نهايات الزمان والمكان! إن ما يصيب فردا أو جماعة بظلمهم، في هذه الصورة التي يكاد يعجز عن تصورها خيالنا، إنما هو العدل في أبسط صوره.
لو أننا نسبنا الظلم لأب ترك ابنه الذي ضل يلقى جزاء ضلاله ما دام الضلال قد كتب عليه، لحق علينا أن ننسب الظلم لأنفسنا لأننا نقتل برغوثا يؤذينا اتقاء وخوفا من عدوى ينقلها إلينا قد تكون وبالا علينا وعلى الجماعة إذا انتقلت منا إلى غيرنا، أو لأننا نفتّت حصاة في المرارة أو الكلى خيفة ما تجره علينا من آلام وشقوة، أو لأننا نبتر عضوا من أعضائنا مخافة أن يستشري منه الفساد إلى سائر الجسم فيقتله. ولو أننا لم نفعل، لأن ذلك قد كتب علينا، ثم شقينا أو هلكنا فلا نلومنّ إلا أنفسنا بما يصيبنا من السوء ما دام الله قد فتح لنا باب الشفاء كما فتح للمذنب باب التوبة. والجاهلون وحدهم هم الذين يقبلون الألم والشقاء زعما منهم أنه كتب عليهم؛ وذلك حماقة منهم وسخف. فكيف بنا ونحن نرى قتل البرغوث واستئصال الحصاة وبتر العضو المريض عدلا كل العدل، وإن كان قد كتب في سنة الكون أن يؤذي البرغوث وأن ينقل إلى الإنسان العدوى وأن تفسد الحصاة وأن يفسد العضو المريض سائر الجسد فيقضي عليه- كيف بنا ونحن نرى هذا ألا نعتبر سذاجة بلهاء لا مسوّغ لها إلا الإستئثار الضيق الأفق أن نقف من أمر هذه العدالة عند ذواتنا، وألّا نعدّيها إلى الجماعة الإنسانية كلها، وألّا نعدّيها أكثر من ذلك إلى الكون كله!؟
وما البرغوث وما الحصاة وما الإنسان إلى جانب الكون؟! بل ما الإنسانية كلها إلى جانب الكون؟ هذا الكون الفسيح يحاول خيالنا العاجز تصوير حدوده بالزمان والمكان وبالأزل والأبد، وبأمثال هذه الألفاظ التي لا سبيل لنا غيرها إلى أن نرسم لأنفسنا صورة من الكون ناقصة غاية النقص، يتفق نقصها مع ما أوتينا من العلم، وما أوتينا من العلم إلا قليلا. وهذا القليل قد هدانا إلى أن سنّة الله في الكون سنّة نظام وعدل لا تبديل لها ولا تحويل. وإنما نهتدي إلى هذه السنّة وقد جعل الله لنا السمع والأبصار والأفئدة لنشهد بديع صنعه ونقف في الكون على سنّته، فنسبّح بحمده ونعمل الخير بأمره. وعمل الخير عن إيمان هو أرقى مظهر لعبادة الله لقوم يعقلون.
فأمّا الموت فخاتمة حياة وبدء حياة. لذلك لا يجزع منه إلا الذين ينكرون الحياة الآخرة ويخشونها لسوء صنيعهم في الحياة الدنيا. أولئك لا يتمنّون الموت بما كسبت أيديهم؛ وإنما يتمنى الموت صدقا المؤمنون حقّا والذين عملوا في الدنيا صالحا.
يقول تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (?) . ويقول جل شأنه مخاطبا نبيّه: (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ. كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) (?) . ويقول: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ