بالإثم، تتنزّه نفوسهم عن الحسد وعن الخديعة وعن لغو القول وعن كل منقصة.
وهذه الصفات والأخلاق التي يقوم عليها أدب النفس ويهذّب الخلق على مقتضاها، إنما تستند- كما قدّمنا- إلى النظام الروحي الذي نزل به القرآن والذي يتصل بالإيمان بالله. وهذا هو الأمر الجوهريّ فيها. وهذا هو ما يكفل تمكن هذا النظام الخلقي من النفس وبقاءه مطهّرا من كل دنس، بعيدا عن أن تتسرّب إليه أسباب تفسده. فالأخلاق التي تقوم على أساس من المنفعة وتبادلها يسرع إليها الضعف ما اطمأنت إلى أن هذا الضعف لا يجرّ على منافعها أذى. وهذه الأخلاق القائمة على تبادل المنفعة يغلب في صاحبها أن يكون باطنه غير ظاهره، ومكنون أمره غير ما يبدو للناس به، فهو يصطنع الأمانة وليس ما يمنعه أن يتخذها ذريعة لتصيّد المنافع. وهو يتظاهر بالصدق، ولا يصدّه عن مجافاته شيء ما كان في مجافاته جلب منفعة له. أخلاق ذلك ميزانها ما أسرع ما يضعف صاحبها أمام المغريات، وما أسرع ما يجري وراء الأهواء والغايات!
وهذا الضعف هو الظاهرة البادية للعيان في عالمنا الحاضر. فما أكثر ما يسمع الناس بفضائح تقع في بلد أو في آخر من بلاد العالم المتحضّر، سببها الحرص على المال وعلى السلطان أكثر من الحرص على الخلق الكريم وعلى الإيمان الصادق. وكثيرون من هؤلاء الذين ينحدرون إلى مهاوي هذه الماسي الخلقية والذين يرتكبون أتعس الجرائم، تراهم أوّل أمرهم على خلق كريم، لكن المنفعة كانت أساس هذا الخلق. كانوا يرون النجاح في الحياة رهنا بالاستقامة، فاستقاموا لينجحوا، لا لأن الاستقامة متصلة بعقيدتهم؛ فهم يقفون عند حدودها ولو جنت عليهم. فلمّا رأوا الاستهانة بالاستقامة بعض أسباب النجاح في حضارة هذا العصر استهانوا بها.
ومنهم من يظلّ أمره مستورا عن الناس، فلا تناله الفضيحة وسيظل مرموقا بعين الإكبار، ومنهم من ينكشف أمره فيفتضح وتصل به الفضيحة إلى الإنتحار أحيانا.
بناء النظام الخلقي على المنفعة يعرّضه، إذا، لهذا البلاء ما بين حين وحين. أمّا بناؤه على هدى النظام الرّوحيّ على نحو ما نزل به القرآن، فهو الكفيل ببقائه متينا لا يتسرّب إليه وهن. فالنية التي يصدر العمل عنها هي قوام هذا العمل والمقياس الذي يجب أن يقاس به. والرجل الذي يشتري ورقة نصيب لبناء مستشفى من المستشفيات لا يشتريها بنية فعل الخير وبقصد الإحسان، بل يشتريها طمعا في الربح. والرجل الذي يعطي لأن سائلا ألحف عليه في المسألة فأراد التخلص منه، ليس كمن يعطي من تلقاء نفسه أولئك الذين لا يسألون الناس إلحافا يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف. والرجل الذي يقول الحق للقاضي مخافة عقاب القانون لشاهد الزور، ليس كمن يقول الحق لأنه يؤمن بفضيلة الصدق. ولن تكون الأخلاق التي تقوم على أساس المنفعة وتبادلها في متانة الأخلاق التي يؤمن صاحبها بأنها متصلة بكرامته الإنسانية، متصلة بإيمانه بالله، قائمة في نفسه على الأساس الروحي الذي يقوم عليه الإيمان بالله.
وقد حرص القرآن على أن يظلّ حكم العقل سليما، لا يتسرّب إليه ما يؤثر في حسن تصوّره الإيمان والخلق. لذلك اعتبر الخمر والميسر رجسا من عمل الشيطان؛ ولئن كان فيها منافع للناس لإثمهما أكبر من نفعهما، ومن ثمّ وجب اجتنابهما. فالميسر يصرف ذهن المقامر عما سواه، ويستنفد من وقته ويغريه بما يلهيه عن موجب الخلق الفاضل. والخمر تذهب العقل والمال على حدّ تعبير عمر بن الخطاب حين دعا أن يبيّن الله فيها. وطبيعي أن يضلّ حكم العقل إذا ذهب أو تغيّر، وأن يهوّن ضلاله على صاحبه مؤاتاة الدنيّة بدل أن يسمو عن أن يمرّ به طيف الفاحشة.