يذكر بدقة غاية الدقة ما يتلقاه وما يتلوه بعد ذلك على أصحابه. هذا، ثم إن نزول الوحي لم يكن يقترن حتما بالغيبوبة الجسمية مع تنبه الإدراك الروحي غاية التنبه، بل كان كثيرا ما يحدث والنبيّ في تمام يقظته العادية، وحسبنا أن نشير إلى ما أوردنا في هذا الكتاب عن نزول سورة الفتح عند قفول المسلمين من مكة إلى يثرب بعد عهد الحديبية.
ينفي العلم إذا أن الصرع كان يعتري محمدا؛ ولذلك لم يقل به إلا الأقلون من المستشرقين الذين افتروا على القرآن أنه حرف. وهم لم يقولوا به حرصا على حقيقة يتلمسونها، وإنما قالوا به ظنّا منهم أنهم يحطّون من قدر النبي العربي في نظر طائفة من المسلمين. أم حسبوا أنهم يلقون بأقوالهم هذه ظلا من الريبة على الوحي الذي نزل عليه، لأنه نزل عليه فيما يزعمون أثناء هذه النوبات؟ إن يكن ذلك فهو الخطأ البين، كما قدمنا، وهو ما ينكره العلم عليهم أشد الإنكار.
ولو أن نزاهة القصد كانت رائد هؤلاء المستشرقين لما حمّلوا العلم ما ينكره. وهم إنما فعلوا ذلك ليخدعوا به أولئك الذين لا يهداهم علمهم إلى معرفة أعراض الصرع، والذين تمسكهم طمأنينتهم الساذجة إلى أقوال هؤلاء المستشرقين عن سؤال أهل العلم من رجال الطب وعن الرجوع إلى كتبه. ولو أنهم فعلوا لما تعذر عليهم أن يكشفوا عن خطأ هؤلاء المستشرقين خطأ مقصودا أو غير مقصود، ولتبينوا أن النشاط الروحي والعقليّ للإنسان يختفي تمام الاختفاء أثناء نوبات الصرع، ويذر صاحبه في حالة آلية محضة يتحرّك مثل حركته قبل نوبته، أو يثور إذا اشتدت به النوبة فيصيب غيره بالأذى، وهو أثناء ذلك غائب عن صوابه، لا يدرك ما يصدر عنه ولا ما يحلّ به، شأنه شأن النائم الذي لا يشعر بحركاته أثناء نومه؛ فإذا انقضى ما به لم يذكر منه شيئا. وشتان ما بين هذا وبين نشاط روحيّ قوي قاهر يصل صاحبه بالملأ الأعلى عن شعور تام وإدراك يقيني، ليبلغ من بعد ما أوحي إليه. فالصرع يعطل الإدراك الإنساني وينزل بالإنسان إلى مرتبة آلية يفقد أثناءها الشعور والحس. أما الوحي فسموّ روحيّ اختص الله به أنبياءه ليلقي إليهم بحقائق الكون اليقينية العليا كي يبلغوها للناس. وقد يصل العلم إلى إدراك بعض الحقائق ومعرفة سننها وأسرارها بعد أجيال وقرون، وقد يظل بعضها لا يتناوله العلم حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهي مع ذلك حقائق يقينية تهتدي قلوب المؤمنين الصادقين إلى حقيقتها، على حين تظل قلوب عليها أقفالها جاهلة إياها لغافلتها عنها.
كنا نفهم أن يقول هؤلاء المستشرقون. إن الوحي ظاهرة نفسية شاذة في تقدير علمنا وما وصل إليه حتى اليوم؛ فمن المتعذر إذا تفسيرها على طريقته. لكن هذا القول إنما يدل على أن علمنا- على ما انفسح مداه واتسع أفقه- لا يزال قاصرا عن تفسير كثير من الظاهرات الروحية والنفسية. ولا عيب على العلم في هذا ولا عجب منه؛ فعلمنا ما يزال قاصرا عن تفسير بعض الظاهرات الكونية القريبة منا، وطبيعة الشمس والقمر وغيرهما من الأفلاك والكواكب لا يزال أمر العلم فيها عند الفروض والاستنباطات؛ وهذه الأفلاك جميعا بعض ما تشهده العين المجردة، وما تكشف الآلات المقرّبة لنا عن كثير من خفاياها. وإلى قرن مضى كانت مخترعات كثيرة تعتبر بعض إبداع الخيال فلا سبيل إلى أن تتجسّد أمامنا، وها هي ذي تجسدت وصرنا نحسبها من البسائط. والظاهرات الروحية والنفسية هي اليوم موضع ملاحظة العلماء، لكنها لم تخضع بعد لسلطان العلم كي يستنبط قوانينها الثابتة. وكثيرا ما نقرأ عن أمور شهدها العلماء وأثبتوها ثم أثبتوا معها أنهم لا يجدون لها في