وتولى غسل النبيّ أهله الأقربون، وفي مقدمتهم عليّ بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وولداه الفضل وقثم وأسامة بن زيد. وكان أسامة بن زيد وشقران مولى النبيّ هما اللذان يصبّان الماء عليه وعليّ يغسله وعليه قميصه؛ فقد أبوا أن ينزعوا عنه القميص. وكانوا أثناء ذلك يجدون به طيبا حتى كان عليّ يقول: بأبي أنت وأمي! ما أطيبك حيّا وميّتا!. ويذهب بعض المستشرقين إلى أن هذه الرائحة الذكية ترجع إلى ما اعتاد النبيّ طوال حياته من التطيّب حتى كان يرى الطيب بعض ما حبّب إليه من هذه الحياة الدنيا. فلمّا فرغوا من غسله وعليه قميصه كفن في ثلاث أثواب: ثوبين صحاريّين (?) وبرد حبرة أدرج فيه إدراجا. ولمّا تمّ الجهاز على هذا النحو ترك الجثمان حيث كان، وفتحت الأبواب للمسلمين يدخلون من ناحية المسجد يطوفون، يلقون على نبيهم نظرة الوداع، ويصلّون على النبيّ، ثم يخرجون وقد هوى الحزن بنفوسهم إلى قرار سحيق.
وامتلأت الحجرة حين دخل أبو بكر وعمر يصليان مع المسلمين لا يؤمّهم في صلاتهم هذه أحد. فلما استوى الناس بالمكان وقد علاهم الصمت قال أبو بكر: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. نشهد أن نبي الله ورسوله قد بلّغ رسالة ربّه وجاهد في سبيله حتى أتمّ الله النصر لدينه، وأنه وفى بوعده، وأمر ألّا نعبد إلا الله وحده لا شريك له. وكان المسلمون يجيبون عند كل جملة من كلام أبي بكر في هيبة وخشوع: آمين آمين. فلما فرغ الرجال من صلاتهم وخرجوا أدخل النساء، ثم أدخل الصبيان من بعدهم. وهؤلاء وأولئك جميعا كلّ واجف قلبه محزون فؤاده يفرى الأسى كبده لفراق رسول الله خاتم النبيين، وتساوره على دين الله أشد الخشية من بعده.
وإني لأستعيد الساعة، بعد أكثر من ألف وثلثمائة سنة من ذلك اليوم، صورة هذا المشهد الرهيب المهوب فتمتلئ نفسي هيبة وخشوعا ورهبة. هذا الجثمان المسجّى في ناحية من الحجرة التي ستصبح غدا قبرا والتي كانت إلى أمس بساكنها حياة ورحمة ونورا؛ وهذا الجثمان الطاهر لذلك الذي دعا الناس إلى الهدى والحق، وكان لهم المثل الأعلى في البر والرحمة والإقدام والإباء وإنصاف المظلوم والانتصاف من كل رجل وكل امرأة وكل صبيّ يذكر في هذا الرجل الذي اختار جوار ربه أباه وأخاه وصاحبه ووفيه ونبيّ الله ورسوله! أيّ شعور تمتلئ به تلك القلوب العامرة بالإيمان الممتلئة إشفاقا مما يخبئ الغد بعد موت الرسول- أستعيد الساعة صورة هذا المشهد الرهيب، فأراني شاخصا له مأخوذا به ممتلئ القلب من جلال هيبته، أكاد لا أجد إلى الإنصراف عنه سبيلا.
وكان من حق المسلمين أن تساورهم الخشية. فمنذ ذاع النّبأ بموت النبيّ في المدينة وترامى إلى قبائل العرب المحيطة بها، اشرأبّت اليهودية والنصرانية، ونجم النفاق، وتبلبلت عقائد المستضعفين من العرب.
وهمّ أهل مكة بالرجوع عن الإسلام، بل أرادوا ذلك، حتى خافهم عتّاب بن أسيد عامل النبي على أمّ القرى فتوارى منهم. ولولا أن قام سهيل بن عمرو بينهم، فقال بعد أن ذكر وفاة النبي: إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة، فمن رابنا ضربنا عنقه؛ ثم قال: يا أهل مكة، كنتم آخر من أسلم فلا تكونوا أوّل من ارتدّ، والله ليتمّنّ