«والآن، وقد تبين أن القرآن الذي نتلو هو نص مصحف عثمان لم يتغير، فعلينا أن نبحث: أهذا النص هو صورة مضبوطة لما جمع زيد بعد الاتفاق على إزالة ما كان في التلاوة من أوجه خلاف قليلة العدد قليلة الخطر؟ وكل ما لدينا مقنع تمام الإقناع بأن الأمر كذلك. فليس في الأنباء القديمة أو الجديرة بالتصديق ما يلقي على عثمان أية شبهة بأنه قصد إلى تحريف القرآن لتأييد أغراضه. صحيح أن الشيعة أدّعوا من بعد أنه أغفل بعض آيات تزكي عليّا. لكن العقل لا يسوغ هذا الزعم، فلم يكن قد نجم أي خلاف بين الأمريين والعلويين حين أقرّ مصحف عثمان، بل كانت وحدة الإسلام قائمة حينذاك لا يهدّدها شيء. ثم إن عليّا لم يكن قد صوّر مطالبه في صورتها الكاملة؛ فلم يكن غرض من الأغراض إذا ليدفع عثمان إلى ارتكاب إثم ينظر إليه المسلمون بعين المقت غاية المقت. ولقد كان عدد كبير ممن وعت قلوبهم القرآن كما سمعوه حين تلاه النبي أحياء حين جمع عثمان المصحف. فلو أن آيات تزكي عليّا كانت قد نزلت لوجدت نصوصها بين يدي أنصاره الكثيرين. وهذان السببان كانا كفيلين بالقضاء على كل محاولة لإغفال هذه الآيات. يضاف إلى ذلك أن شيعة علي استقلّوا بأمرهم بعد وفاة عثمان وبايعوا عليّا بالخلافة. أفيقبل العقل أنهم، وقد وصلوا إلى السلطة، يرضون عن قرآن مبتور، ومبتور قصدا للقضاء على أغراض زعيمهم!؟ مع ذلك ظلّوا يتلون القرآن الذي يتلوه خصومهم، ولم يثيروا أي ظل من الاعتراض عليه؟ بل إن عليّا أمر بأن تنشر نسخ كثيرة منه، ويقال إنه كتب بخط يده عددا منها. صحيح إن الثائرين قد جعلوا من أسباب انتقاضهم أن عثمان جمع القرآن وأمر بإهلاك ما سوى مصحفه من المصاحف. واعتراضهم إنما ينصب على إجراآت عثمان لذاتها ويعتبرونها محرّمة لا تجوز، لكن لم يشر أحد فيما وراء ذلك إلى تحريف في المصحف أو إبدال؛ فمثل هذا الزعم كان ظاهر الفساد يومئذ؛ وإنما أبدعه الشيعة من بعد لأغراضهم.
نستطيع أن نستنبط إذا مطمئنين أنّ مصحف عثمان كان وما زال صورة مضبوطة لما جمعه زيد بن ثابت، مع مزيد في التوفيق بين الروايات السابقة له وبين لهجة قريش، ثم استبعاد سائر القراآت التي كانت منتشرة في أنحاء المملكة. مع ذلك لا تزال أهمّ مسألة قائمة أمامنا، هذه المسألة هي: هل كان ما جمعه زيد صورة صادقة كاملة لما أوحي إلى محمد؟ والاعتبارات الآتية تبعث اليقين بأنه كان مجموعة صادقة بلغت من حيث إنها كاملة كل ما يمكن بلوغه يومئذ:
«أوّلا- تمّ الجمع الأول برعاية أبي بكر. وكان أبو بكر تابعا صادق الإخلاص لمحمد كما كان مؤمنا كامل الإيمان بالمصدر القدسي للقرآن؛ وكان اتصاله الحميم بالنبي خلال السنوات العشرين الأخيرة من حياته، ومظهره الخلافة مظهر البساطة والحكمة والتنزه عن المطامع، بحيث لا تدع موضعا لأي فرض آخر. وكان إيمانه بأن ما يوحى إلى صاحبه إنما يوحى إليه من الله ذاته، مما يجعل أول أغراضه أن يكفل جمع هذا الوحي كله مطهرا كاملا. ومثل هذا القول يصدق علي عمر، وقد تمّ الجمع في خلافته. وهذا القول يصدق كذلك على المسلمين يومئذ جميعا، لا تفاوت لديهم فيه بين الكاتبين الذين عاونوا على هذا الجمع وبين المؤمن الرقيق الحال الذي يحمل إلى زيد ما عنده من الوحي المكتوب على العظام أو على أوراق الشجر؛ فقد كانوا جميعا تتساوى رغبتهم الصادقة في استظهار العبارات والألفاظ التي تلاها عليهم نبيهم على أنها رسالة من عند الله. وقد كان الحرص على الدقة قائما بشعور الناس جميعا؛ لأنه لم ينغرس في نفوسهم شيء ما أنغرس