أركان الإسلام فكانت تلاوة ما تيسر منه جزآ جوهريّا من الصلوات اليومية عامة أو خاصة، وكان القيام بهذه التلاوة فرضا وسنة يجزي من يؤديهما جزاء دينيا صالحا. ذلك كان جماع الرأي في السّنة الأولى، وهو ما يستفاد كذلك من الوحي نفسه. لذلك وعت القرآن ذاكرة كثرة المسلمين الأولين إن لم يكونوا جميعا. وكان مبلغ ما يستطيع أحدهم تلاوته بعض المميزات الجوهرية في العهد الأول للإمبراطورية الإسلامية. وقد يسّرت عادات العرب هذا العمل؛ فقد كانوا ذوي ولع بالشعر عظيم. ولما كانت الوسائل لتحرير ما يفيض عن شعرائهم في غير متناول اليد، فقد اعتأدوا أن ينقشوا هذه القصائد كما كانوا ينقشون ما يتعلق بأنسابهم وقبائلهم على صفحات قلوبهم. بذلك نمت ملكة الذاكرة غاية النمو، ثم تناولت القرآن بكل ما أدّت إليه يقظة الروح إذ ذاك من حرص وإقبال. ولقد بلغ بعض أصحاب النبيّ من قوة الذاكرة ودقتها ومن التعلق بحفظ القرآن واستذكاره حدّا استطاعوا معه أن يعيدوا بدقة يقينية كل ما عرف منه إلى يوم كانوا يتلونه.
على الرغم من هذه القوة التي امتازت بها الذاكرة العربية فقد كنا في حل من ألّا نولي ثقتنا مجموعة ذلك كل مصدرها. لكن لدينا من الأسباب ما يحملنا على الاعتقاد أن أصحاب النبي دوّنوا أثناء حياته نسخا شتى لأجزاء مختلفة من القرآن، وأن هذه النسخ سجّلت القرآن، سجلته كله تقريبا. فقد كانت الكتابة معروفة على وجه عام بمكة قبل نبوّة محمد بزمن غير قليل. وكان النبي قد استعمل على تحرير الكتب والرسائل أكثر من واحد من أصحابه بالمدينة. وقد فكّ إسار الفقراء من أسرى بدر مقابل قيامهم بتعليم أنصار المدينة الكتابة. ومع أن أهل المدينة لم يكونوا مثقفين ثقافة أهل مكة، فقد عرفت مقدرة الكثيرين منهم على الكتابة قبل الإسلام. ومن اليسير مع ثبوت هذه للقدرة على الكتابة، أن نستنبط غير مخطئين أن الآيات التي وعتها الذاكرة بدقة قد سجلتها الكتابة بمثل هذه الدقة.
«ثم إنا نعرف أن محمدا كان يبعث إلى القبائل التي تدخل في الإسلام واحدا أو أكثر من أصحابه لتعليمهم القرآن وتفقيههم في الدين، وكثيرا ما نقرأ أن هؤلاء المبعوثين كانوا يحملون معهم أوامر مكتوبة في شأن الدين. ولقد كانوا يحملون ما نزل به الوحي بطبيعة الحال، وخاصة ما اتصل منه بشائر الإسلام وقواعده، وما يتلى منه أثناء العبادة. والقرآن نفسه ينص على وجوده مكتوبا. وتنص كتب السيرة، حين تذكر إسلام عمر، على وجود نسخة من السورة المتمة للعشرين (سورة طه) في حيازة أخته وأسرتها.
وكان إسلام عمر قبل الهجرة بثلاث سنوات أو أربع. فإذا كان الوحي يدوّن ويتبادل في العصر الأول، حين كان المسلمون قليلين وحين كانوا يسامون العذاب، فمن المقطوع به أن النسخ المكتوبة كثر عددها وتداولها حين بلغ النبي أوج السلطة وحين صار كتابه قانون العرب جميعا.
«كذلك كان شأن القرآن أثناء حياة النبيّ، وكذلك كان شأنه إلى عام بعد وفاته: بقي مسطورا في قلوب الذين آمنوا به مسجّلة أجزاؤه المختلفة في نسخ كانت تزداد كل يوم عددا. وكان لزاما أن يتطابق هذان المصدران تمام التطابق. فقد كان القرآن منظورا إليه، حتى في حياة النبي، برهبة اليقين بأنه كلام الله ذاته لذلك كان كل خلاف على نصه يرجع فيه إلى النبيّ نفسه كي يزيله. ولدينا أمثلة من ذلك؛ إذ رجع إلى النبي عمرو بن مسعود وأبي بن كعب. فلما قبض النبي كان يرجع عند الخلاف إلى النصوص المكتوبة، وإلى ذاكرة أصحاب النبي الأقربين وكتّاب وحيه.