أن ينحازوا إلى قمم حنين وعند مضيق الوادي؛ فإذا نزل المسلمون وادية فليشدّوا عليهم شدّة رجل واحد تضعضع صفوفهم، فيختلط حابلهم بابلهم ويضرب بعضهم بعضا، وتدور عليهم الهزيمة، ويزول أثر انتصارهم حين فتحوا مكة، ويبقى لقبائل حنين في بلاد العرب جميعا فخار النصر على هذه القوّة التي تريد أن تظلّ بسلطانها بلاد العرب جميعا. وامتثلت القبائل أمر مالك وتحصّنت بمضيق الوادي.
أمّا المسلمون فبادروا بعد أسبوعين من مقامهم بمكة وعلى رأسهم محمد في عدّة وعديد لم يكن لهم من قبل بها عهد قط. ساروا في اثني عشر ألفا من المقاتلين، منهم عشرة آلاف هم الذين غزوا مكة وفتحوها، وألفان ممن أسلم من قريش، وبينهم أبو سفيان بن حرب، وكلهم تلمع دروعهم، وفي مقدّمتهم الفرسان والإبل تحمل الميرة والذخيرة. سار المسلمون في هذا الجيش الذي لم تعرف بلاد العرب من قبل مثاله، يتقدّم كلّ قبيلة علمها وتمتلئ النفوس كلها إعجابا بهذه الكثرة، وبأن لا غالب اليوم لها؛ حتى لقد تحدّث بعضهم بذلك إلى بعض وجعلوا يقولون: لن تغلب اليوم لكثرتنا. وبلغوا حنينا والمساء يقبل، فنزلوا على أبواب واديها وأقاموا بها حتى بكرة الفجر. هنالك تحرّك الجيش، وركب محمد بغلته البيضاء في مؤخّرته، على حين سار خالد بن الوليد على رأس بني سليم في المقدّمة، وانحدروا من مضيق حنين في واد من أودية تهامة. وإنهم لكذلك منحطّون إلى الوادي إذ شدّت عليهم القبائل بإمرة مالك بن عوف شدّة رجل واحد وأصلوهم وابلا من النبال وهم جميعا ما يزالون في عماية الفجر. إذ ذاك اختلط أمر المسلمين واضطرب، وعادوا منهزمين قد أخذ الخوف والفزع منهم كل مأخذ، حتى أطلق بعضهم ساقية للريح، وحتى قال أبو سفيان بن حرب وعلى شفته ابتسامة المغتبط لفشل أولئك الذين انتصروا بالأمس على قريش: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر. وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة: اليوم أدرك ثأري من محمد، وكان أبوه قد قتل في غزوة أحد. وقال كلدة بن حنبل: ألا بطل السحر اليوم! فردّ عليه أخوه صفوان: اسكت فض الله فاك! فو الله لأن يربّني (?) رجل من قريش أحبّ إليّ من أن يربّني رجل من هوازن. تقع هذه الأحاديث والجيش يختلط حابله بنابله والنبيّ في المؤخرّة تمرّ عليه القبائل واحدة بعد الآخرى مهزومة لا تلوي على شيء.
ماذا تراه يصنع؟ أفتضيع تضحيات عشرين سنة في هذه اللحظة من عماية الصبح؟ أفتنحى عنه ربّه وتخلى عنه نصر الله إياه؟! كلا! كلا! لن يكون هذا! دون هذا تبيد أمم وتفنى أقوام! ودون هذا الموت يدخل محمد في غماره لعل في الموت لدين الله نصرا. وإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، وثبت محمد مكانه، وأحاط به جماعة من المهاجرين والأنصار ومعه أهل بيته، وجعل ينادي في الناس إذ يمرون به منهزمين: أين أيها الناس! أين! لكن الناس كانوا فيما هم فيه من هول الفزع لا يسمعون إلى شيء ولا يدور بتصوّرهم إلا هوازن وثقيف منحدرتين من معتصمهما بالقمم تطاردانهم حتى تأتيا عليهم. ولم يخطئ تصورّهم؛ فقد انحدرت هوازن من مكانها يتقدّمها رجل على جمل له أحمر، بيده راية سوداء في رأس رمح طويل، وهو كلما أدرك المسلمين طعن برمحه، وهوازن وثقيف وأنصارهما منحدرون من ورائه يطعنون. وثارت بمحمد حميّته، فأراد أن يندفع ببغلته البيضاء في صدر هذا السيل الدافع من رجال العدوّ، وليكن بعد ذلك أمر الله. لكنّ أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب أمسك بخطام بغلته وحال دون تقدّمها.