قتل رجاله الخمسة عشر في ذات الطّلح، فإنه عليه السلام دعا إليه، في جمادي الأولى من السنة الثامنة للهجرة (سنة 629 م) ، ثلاثة آلاف من خيرة رجاله، واستعمل عليهم زيد بن حارثة وقال: «إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، وإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس» . وخرج هذا الجيش وخرج معه خالد بن الوليد متطوّعا ليدلّ بحسن بلائه في الحرب على حسن إسلامه. وودع الناس أمراء الجيش والجيش، وسار محمد معهم حتى ظاهر المدينة، يوصيهم ألّا يقتلوا النساء ولا الأطفال ولا المكفوفين ولا الصبيان، ولا يهدموا المنازل ولا يقطعوا الأشجار. ودعا عليه السلام ودعا المسلمون لهذا الجيش قائلين: صحبكم الله ودفع عنكم وردّكم إلينا سالمين! وكان أمراء الجيش كلهم يفكرون في أخذ القوم من أهل الشام على غرّة منهم، على عادة النبي في سابق غزواته، فيسرع إليهم النصر ويعودون بالغنيمة. وسار القوم حتى بلغوا معان من أرض الشام وهم لا يعلمون ما هو ملاقيهم. لكن أنباء مسيرتهم كانت قد سبقتهم. فقام شرحبيل عامل هرقل على الشام فجمع جموع القبائل ممن حوله، وأوفد من جعل هرقل يمدّه بجيوش من الإغريق ومن العرب. وتذهب بعض الروايات إلى أن هرقل نفسه تقدم بجيوشه حتى نزل ماب من أرض البلّقاء على رأس مائة ألف من الروم، كما انضم إليه مائة ألف أخرى من لخم وجذام والقين وبهراء وبليّ. ويقال إن تيودور أخا هرقل هو الذي كان على رأس هذه الجيوش لا هرقل نفسه. وبلغ المسلمين وهم بمعان أمر هذه الجموع، فأقاموا بها ليلتين يفكرون ماذا يصنعون أمام هذا العدد الذي لا قبل لهم به. قال قائل منهم: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فنخبره بعدد عدوّنا؛ فإما يمدّنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له. وكاد هذا الرأي يسود لولا أن تقدم عبد الله بن رواحة، وكان إلى جانب شهامته وفروسيته شاعرا، فقال: يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به؛ فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين: إمّا ظهور وإمّا شهادة. وامتدّت عدوى النخوة من الشاعر الشجاع إلى الجيش كله؛ فقال الناس: فو الله صدق ابن رواحة! ومضوا، حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية يقال لها مشارف. فلما دنا العدو انحاز المسلمون إلى قرية مؤتة أن رأوها خيرا من مشارف لتحصّنهم بها. وفي مؤتة بدأت المعركة حامية الوطيس بين مائة أو مائتي ألف من جيوش هرقل وثلاثة آلاف من المسلمين.
يا لجلال الإيمان وروعة قوّته! حمل زيد بن حارثة راية النبيّ واندفع بها في صدر العدو وهو موقن أن ليس من موته مفرّ. لكن الموت في هذا المقام هو الاستشهاد في سبيل الله! وليس إلا الاستشهاد دون النصر والظفر مكانا.
وحارب زيد حرب المستميت حتى مزّقته رماح العدوّ فتناول الراية من يده جعفر بن أبي طالب، وهو يومئذ في الثالثة والثلاثين من عمره، وهو شاب تعدل وسامته شجاعته. وقاتل جعفر بالراية، حتى إذا أحاط العدوّ بفرسه اقتحم عنها فعقرها، واندفع بنفسه وسط القوم منطلقا انطلاقة السهم يهوي سيفه برؤسهم حيثما وقع. وكان اللواء بيمين جعفر فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل. يقال إن رجلا من الروم ضربه يومئذ ضربة قطعته نصفين. فلمّا قتل جعفر أخذ ابن رواحة الراية، ثم تقدم بها وهو على فرسه؛ فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ثم قال: