ثم إنه كانت تستغلق عليّ بعض المسائل أحيانا فأفضي إلى من آنس فيه المعرفة من أصدقائي بما استغلق عليّ فأجد في كثير من الأحيان خير العون. وجدت ذلك غير مرّة عند الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي، ووجدته عند صديقي الضليع جعفر (باشا) وهو الذي أعارني عدّة كتب كصحيح مسلم وتواريخ مكة، ودلنيّ على غير مسألة من المسائل وهداني إلى موضعها، وقد أعارني صديقي الأستاذ مكرم عبيد (باشا) كتاب المستشرق السير وليم موير «حياة محمد» وكتاب الأب لامنس «الإسلام» . هذا إلى ما وجدت من عون في مؤلّفات المعاصرين القيامة ككتاب «فجر الإسلام» للأستاذ أحمد أمين، و «قصص الأنبياء» للأستاذ عبد الوهاب النّجار، و «في الأدب الجاهلي» للدكتور طه حسين، و «اليهود في بلاد العرب» لإسرائيل ولفنسن، وغير هذه من كتب المعاصرين كثير ذكرته في بيان المراجع القديمة والحديثة التي استعنت بها على وضع هذا الكتاب.

ولقد كنت كلما أزددت توسعا في البحث أرى مسائل تنجم أمامي وتستدعي التفكير ومزيدا من البحث لحلها. وكما عاونتني كتب السيرة وكتب التفسير في الاهتداء إلى غاية من تفكيري أطمئن اليها، عاونتني كذلك كتب المستشرقين في الاهتداء إلى غاية أطمئن إليها. على أنني رأيتني مضطرّا في كل المواقف لأقصر بحثي في حدود حياة محمد نفسه ما لم أضطرّ إلى تناول مسائل أخرى متصلة بهذا البحث اضطرارا. ولو أنني أردت أن أبحث كل ما اتصل بهذه الحياة الفيّاضة العظيمة، لاحتاج الأمر إلى وضع مجلّدات عدّة في حجم هذا الكتاب.

ويحسن أن أذكر أن كوسّان دبرسفال وضع ثلاثة مجلّدات بعنوان «رسالة في تاريخ العرب» ، جعل المجلّدين الأوّلين منها في تاريخ قبائل العرب وحياتها، وجعل الثالث عن محمد وخليفتيه الأوّلين أبي بكر وعمر. وطبقات ابن سعد تقع في مجلّدات كثيرة يتناول جزؤها الأوّل حياة محمد، وسائر أجزائها حياة أصحابه. ولم يكن غرضي أوّل ما بدأت البحث ليتجاوز حياة محمد. فلم أرد في أثنائه أن أتركه يتشعّب فيحول ذلك بيني وبين الغاية التي إليها قصدت.

في حدود السيرة لا أتعداها

وشيء آخر كان يمسكني في حدود هذه الحياة؛ ذلك روعة جلالها وباهر ضيائها جلالا وضياء يتوارى دونهما كل ما سواهما. فما كان أعظم أبا بكر! وما كان أعظم عمر إذ كان كل منهما في خلافته علما يحجب سواه! وما أشدّ ما كان للسابقين الأوّلين إلى صحبة محمد من عظمة ثبتت على الأجيال وهي بعد مما تفاخر به الأجيال.

لكن هؤلاء جميعا كانوا يستظلّون أثناء حياة النبي بجلال عظمته وبستضيئون بباهر لألائه. فليس من اليسير على من يبحث في سيرة الرسول أن يدعها لشيء سواها. وهو أشد شعورا بذلك إذا تناول البحث على الطريقة العلمية الحديثة على نحو ما حاولت أن أفعل، هذه الطريقة التي تجلو عظمة محمد على نحو يبهر العقل والقلب والعاطفة جميعا، ويغرس فيها من الإجلال للعظمة والإيمان بقوتها ما لا يختلف فيه المسلم وغير المسلم.

وأنت إذا طرحت جانبا أولئك المتعصّبين الحمقى الذين جعلوا النيل من محمد دأبهم كالمبشرين وأشباههم، فإنك واجد هذا الإجلال للعظمة والإيمان بقوتها في كتب العلماء المستشرقين واضحين جليين. عقد كارليل في كتابه «الأبطال» فصلا عن محمد صوّر فيه الجذوة الإلهية المقدّسة التي أوحت إلى محمد ما أوحت فصوّر العظمة في جلال قوّتها. وموير، وإرفنج، وسبرنجر، وفيل، وغيرهم من المستشرقين والعلماء قد صوّر كل واحد منهم عظمة محمد تصويرا قويا وإن وقف هذا أو ذاك منهم عند مسائل اعتبرها ماخذ على صاحب الرسالة الإسلامية، لغير شيء إلا أنه لم يمتحنها ولم يمحصها التمحيص العلميّ الدقيق، ولأنه اعتمد فيها على ما

طور بواسطة نورين ميديا © 2015