يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ. الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ. الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (?)

وكذلك محت غزوة بدر الآخرة أثر أحد محوا تامّا، ولم يبق لقريش إلا أن تنتظر عاما آخر، رازحة تحت عار من جبنها لا يقلّ وطأة عن عار هزيمتها في بدر الأولى.

غزوة ذات الرقاع

وأقام محمد بالمدينة مستريحا إلى نصر الله إيّاه، مطمئنا إلى ما عاد للمسلمين من هيبتهم، حفرا دائما غدرة العدوّ، باثّا عيونه في كل النواحي، وإنه لكذلك إذ اتّصل به أن جماعة من غطفان بنجد يجمعون له يريدون حربه. وكانت خطّته أن يأخذ عدوّه على غرّة قبل أن يعدّ العدّة لدفعه. لذلك خرج في أربعمائة من رجاله حتى نزل ذات الرّقاع حيث اجتمع بنو محارب وبنو ثعلبة من غطفان. فلمّا رأوه طلع عليهم في عدة حربه مهاجما مساكنهم، تفرّقوا تاركين وراءهم نساءهم ومتاعهم. واحتمل المسلمون ما استطاعوا، وعادوا أدراجهم إلى المدينة. على أنهم خافوا رجعة العدو عليهم فتناوبوا الحراسة ليل نهار. وجعل محمد يصلّي بهم أثناء ذلك صلاة الخوف؛ فكان جماعة منهم يظلون مستقبلين العدو مخافة لحاقه بهم في حين يصلّي الآخرون مع محمد لله ركعتين. ولم يبد للعدو أثر وعاد النبي وأصحابه إلى المدينة بعد غيابهم خمسة عشر يوما عنها وهم بظفرهم جدّ فرحين.

غزوة دومة الجندل

وخرج النبي بعد قليل من ذلك إلى غزوة أخرى هي غزوة دومة الجندل. ودومة الجندل واحة على حدود ما بين الحجاز والشام، تقع في منتصف الطريق بين البحر الأحمر وخليج فارس. ولم يقابل محمد القبائل التي أراد مقاتلتها هناك والتي كانت تغير على القوافل؛ لأنها ما لبثت حين سمعت باسمه أن أخذها الفزع وولّت مدبرة، وتركت للمسلمين ما احتملوا من غنائم. وأنت ترى من هذا التحديد الجغرافي لدومة الجندل مبلغ ما اتسع نفوذ محمد وأصحابه، وما بلغ إليه سلطانهم وخوف شبه الجزيرة إيّاهم؛ كما ترى كيف كان المسلمون يحتملون المتاعب في غزواتهم، مستهينين بالقيظ والجدب وقلّة الماء، مستهينين بالموت نفسه، يحركهم إلى هذا النصر والظفر شيء واحد هو سبب قوّتهم المعنوية: الإيمان بالله وحده لا شريك له.

آن لمحمد من بعد ذلك أن يطمئن بالمدينة عدة أشهر متتابعة، ينتظر فيها موعد قريش لعامه القادم- سنة خمس من الهجرة- ويقوم بأمر ربه، بإتمام التنظيم الاجتماعي للجماعة الإسلامية الناشئة تنظيما كان يتناول عدة ألوف يومئذ ليتناول الملايين ومئات الملايين من بعد ذلك، ويقوم بإتمام هذا التنظيم الاجتماعي في دقة وحسن سياسة، يوحي إليه ربه منه ما يوحي، ويقر هو ما يتفق مع أمر الوحي وتعاليمه، ويضع من تفاصيل ذلك ما كان موضع التقديس من أصحابه يومئذ، وما ظلّ من بعد ذلك قائما على الأجيال والدهور، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015