لقد كنت كارها متخوّفا وشق على أبي براء إخفار عامر بن الطفيل إيّاه، حتى لقد ذهب ابنه ربيعة فطعن عامرا بالرمح انتقاما منه لأبيه. وبلغ من حزن محمد أنه ظلّ شهرا كاملا يدعو الله بعد أداء فريضة الفجر لينتقم لهم من قتلتهم. وتأثّر المسلمون جميعا لهذه الكارثة التي أصابت إخوانهم في الدين. وإن آمنوا بأنهم جميعا استشهدوا، وبأنهم جميعا لهم الجنة.
ووجد أهل المدينة من المنافقين واليهود فيما أصاب المسلمين بالرّجيع وبئر معونة ما أعاد إلى ذاكرتهم انتصار قريش بأحد، وما أنساهم نصر المسلمين على بني أسد، وما أضعف في نفوسهم من هيبة محمد وأصحابه. وفكّر النبيّ عليه السلام في هذه الحالة تفكير سياسيّ دقيق النظر بعيد مرامي الرأي. فليس شيء أشدّ على المسلمين يومئذ خطرا من أن تضعف في نفوس مساكنيهم بالمدينة هيبتهم، وليس شيء يطمع قبائل العرب فيهم مثل أن تشعر بهذا الانقسام الداخلي يوشك أن يثير حربا أهليّة إذا غزا المدينة غاز من جيرانها. ثم إنه رأى اليهود والمنافقين كأنهم يتربّصون به الدوائر، فقدّر أن لا شيء خير من أن يستدرجهم لتتّضح نيّاتهم.
ولمّا كان اليهود من بني النّضير حلفاء لبني عامر، فقد ذهب إلى محلّتهم على مقربة من قباء، في عشرة من كبار المسلمين بينهم أبو بكر وعمر وعليّ، وطلب إليهم معاونتهم في دية القتيلين الذين قتل عمرو بن أميّة خطأ، ومن غير أن يعلم أن محمدا أجارهما.
فلمّا ذكر لهم ما جاء فيه أظهروا الغبطة والبشر وحسن الاستعداد لإجابته. لكنه ما لبث أثناء تبسط بعضهم معه أن رأى سائرهم يتامرون، ويذهب أحدهم إلى ناحية، ويبدو عليهم كأنهم يذكرون مقتل كعب بن الأشرف، ويدخل أحدهم (عمرو بن جحاش بن كعب) البيت الذي كان محمد مستندا إلى جداره. إذ ذاك را به أمرهم، وزاده ريبة ما كان يبلغه من حديثهم عنه وائتمارهم به. لذلك ما لبث أن انسحب من مكانه تاركا أصحابه وراءه يظنون أنه قام لبعض أمره. أمّا اليهود فقد اختلط عليهم الأمر ولم يعودوا يعرفون ما يقولون لأصحاب محمد ولا ما يصنعون بهم. فإن هم غدروا بهم فمحمد لا ريب منتقم منهم شرّ انتقام. وإن هم تركوهم فلعل ائتمارهم بحياة محمد وأصحابه لا يكون قد افتضح فيظلّ ما بينهم وبين المسلمين من عهد قائما. وحاولوا أن يقنعوا ضيوفهم المسلمين بما يزيل ما قد يكون رابهم من غير أن يشيروا إلى شيء منه. لكن أصحاب محمد استبطئوه فقاموا في طلبه، فلقوا رجلا مقبلا من المدينة عرفوا منه أن محمدا دخلها وأنه قصد توّا إلى المسجد فيها، فذهبوا إليه. فلمّا ذكر لهم ما رابه من أمر اليهود ومن اعتزامهم الغدر به وتنبهوا إلى ما كانوا رأوا، آمنوا بنفاذ بصيرة الرسول وما أوحي إليه. وبعث النبي يدعو إليه محمد بن مسلمة وقال له: «اذهب إلى يهود بني النضير وقل لهم: إن رسول الله أرسلني إليكم أن اخرجوا من بلادي لقد نقضتم العهد الذي جعلت لكم بما هممتم به من الغدر بي. لقد أجّلتكم عشرا، فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه» . وأبلست (?) بنو النّضير، فلم يجدوا لهذا الكلام دفعا ولم يحيروا عنه جوابا إلّا أن قالوا لابن مسلمة: «يا محمد، ما كنا نرى أن يأتي بهذا رجل من الأوس» . وذلك إشارة إلى تحالفهم وإياهم من قبل في حرب الخزرج، فكان كلّ ما أجاب به ابن مسلمة: «تغيّرت القلوب» .
ومكث القوم على ذلك أيّاما يتجهزون وإنهم لكذلك إذ جاءهم رسولان من عند عبد الله بن أبيّ يقولان: