تقرّر دساتيرها أن ملكها هو حامي البروتستنتية أو الكثلكة، أو تقرّر أن دين الدولة الرسمي المسيحية، لا تقصد من ذلك إلى أكثر من مظاهر الأعياد والمواسم وما يتصل بها؛ فازدادوا انخراطا في هذا التفكير العلمي وحرصا على الأخذ منه ومما يتصل به من فلسفة وأدب وفن بأوفر نصيب. فلما آن لهم أن ينتقلوا من الدرس إلى الحيّاة العملية، شغلتهم هذه الحياة عن التفكير في المسائل التي انصرفوا من قبل عن التفكير فيها، وظل اتجاههم الفكري في تياره الأول، ينظر إلى الجمود العقلي مشفقا مزدريا، وينهل من ورد التفكير الغربي والفلسفة الغربية، فيجد فيهما لذّة ويزداد بهما إعجابا وعلى ما نهل صدر شبابه منهما حرصا.
وليس ريب في أن الشرق اليوم في حاجة أشد الحاجة إلى النّهل من ورد الغرب في التفكير وفي الأدب والفن. فقد قطع ما بين حاضر الشرق الإسلامي وماضيه قرون من الجمود والتعصّب غشّت على تفكيره السليم القديم بطبقة كثيفة من الجهل وسوء الظن بكل جديد. فلا مفرّ لمن يريد أن يصهر هذه الطبقة من الاستعانة بأحدث صور التفكير في العالم، ليستطيع من هذه السبيل أن يصل بين الحاضر الحيّ وثروة الماضي وتراثه العظيم.
ومن الحق علينا للغرب أن نقول: إن ما يقوم به علماؤه اليوم من بحوث نفيسة في تاريخ الدراسات الإسلامية والدراسات الشرقية، قد مهد لأبناء الإسلام وأبناء الشرق أن يتزيّدوا من هذه البحوث في تلك الدراسات وأن يكونوا أكبر رجاء في الاهتداء إلى الحق، فهم أقرب بطبعهم إلى حسن إدراك الروح الإسلامي والروح الشرقيّ. وما دام التوجيه الجديد قد بدأ في الغرب، فواجب عليهم أن يتابعوه وأن يصححوا أغلاطه وأن يبثوا فيه الروح الصحيح الذي يعيده إلى الحياة ويصله بالحاضر، لا على أنه مجرّد دراسة وبحث، بل على أنه ميراث روحي وعقلي يجب أن يتمثّله الوارثون، وأن يضيفوا إليه، وأن يزيدوا سنا ضيائه بما يزيد الحقيقة الكامنة فيه ضياء ونورا.
وقد توفّر منهم كثيرون على هذه البحوث يقومون اليوم بها على الطريقة العلمية الصحيحة؛ والمستشرقون أنفسهم يقدرون لهم ذلك ويشيدون بفضلهم فيه.
وبينما يقوم هذا التعاون العلمي الجدير بأن يؤتي خير الثمرات، إذا بنشاط رجال الكنيسة المسيحية لا يفتر في الطعن على الإسلام وعلى محمد طعنا لا يقلّ عما تلوت منه فيما سبقت الإشارة إليه. والاستعمار الغربي يؤيد بقوّته أصحاب هذه المطاعن باسم حرية الرأي، مع أن أصحاب هذه المطاعن قد أجلوا عن بلادهم وحيل بينهم وبين ما يسمونه تثبيت الإيمان في نفوس إخوانهم في الدين. وهذا الاستعمار يؤيّد كذلك دعاة الجمود من المسلمين. وكذلك تضافر عمل الاستعمار على تأييد ما دسّ على الإسلام منه، وعلى سيرة الرسول من خرافات لا يسيغها العقل ولا يقبلها الذوق، وعلى تأييد الطاعنين على الإسلام وعلى محمد بما دسّ على الإسلام وعلى سيرة الرسول.
أتاحت لي ظروف حياتي العملية أن أرى ذلك كله في مختلف بلاد الشرق الإسلامي، بل في البلاد الإسلامية كلها، وأن أتبين ما يقصد إليه من القضاء على الروح المعنوية في هذه البلاد بالقضاء على حرية الرأي