نزل قوله تعالى: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا) (?) .
وسرّي عن المسلمين بنزول القرآن بهذا الأمر، وقبض النبيّ العير والأسيرين فافتدتهما منه قريش؛ فقال: لا نفديكموهما (?) حتى يقدم صاحبانا- يعني سعد بن أبي وقّاص وعتبة بن غزوان- فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم. وقدم سعد وعتبة وأفداهما النبيّ من الأسيرين. فأما أحدهما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام بالمدينة. وأما الآخر فرجع إلى مكة وظل بها حتى مات على دينه ودين آبائه.
جدير بنا أن نقف عند سرية عبد الله بن جحش هذه والآية الكريمة التي نزلت فيها؛ فهي في رأينا مفترق طرق في سياسة الإسلام. هي حادث جديد في نوعه يدل على روح قويّ في سمّوه، إنسانيّ في قوّته، ينتظم نواحي الحياة المادية والمعنوية والروحية كأشد ما يكون النظام قوّة ورفعة وتوجها إلى الكمال. فالقرآن يجيب المشركين عن سؤالهم عن القتال في الشهر الحرام أهو من الكبائر، ويقرّهم على أنه كذلك أمر كبير. لكن هناك ما هو أكبر من هذا الأمر. فالصّدّ عن سبيل الله والكفر به أكبر من القتال في الشهر الحرام، والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر من القتال في الشهر الحرام والقتل فيه. وفتنة الرجل عن دينه بالوعد والوعيد والإغراء والتعذيب أكبر من القتل في الشهر الحرام وفي غير الشهر الحرام. وقريش والمشركون الذين ينعون على المسلمين ما قتلوا في الشهر الحرام لن يزالوا يقاتلون المسلمين حتى يردّوهم عن دينهم إن استطاعوا. فإذا كانت قريش وكان المشركون يرتكبون هذه الكبائر جميعا، فيصدّون عن سبيل الله ويكفرون به ويخرجون أهل المسجد الحرام منه ويفتنونهم عن دينهم، فلا جناح على من تقع عليه أوزارهم وكبائرهم هذه إن هو قاتلهم في الشهر الحرام، وإنما الكبيرة أن يقاتل في الشهر الحرام من لا يجترح من هذه الأوزار وزرا.
الفتنة أكبر من القتل. وحقّ بل واجب على من يرى غيره يحاول فتنته عن دينه أو يصدّ عن سبيل الله أن يقاتل في سبيل الله حتى لا يفتن وحتى ينصر دين الله. هنا يرفع المستشرقون والمبشرون عقائرهم صائحين:
أرأيتم! هذا محمد يدعو دينه إلى الحرب وإلى الجهاد في سبيل الله، أي إكراه الناس بالسيف على الدخول في الإسلام. أليس هذا هو التعصب بعينه! وهذا في حين تنكر المسيحية القتال وتمقت الحرب وتدعو إلى السلام، وتنادي بالتسامح وتربط بين الناس برابطة الإخاء في الله وفي السّيد المسيح. ولست أؤيد لكي أناقش هؤلاء، أن أذكر كلمة الإنجيل: «ما جئت لألقي على الأرض سلاما بل سيفا ... إلخ» . وما تنطوي عليه هذه الكلمة من المعاني؛ فالمسلمون يقرّون دين عيسى كما نزل به القرآن. وإنما أريد بادئ الرأي أن أردّ قولهم: إن محمدا دعا دينه إلى القتال لإكراه الناس بالسيف على الدخول في الإسلام. فهذه فرية ينكرها القرآن في قوله تعالى: (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (?) ، وفي قوله تعالى: (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (?) . وفي كثير غير هاتين الآيتين الكريمتين.
الجهاد في سبيل الله
والجهاد في سبيل الله معناه الصريح، على نحو ما ورد في الآيات التي ذكرناها والتي نزلت في سرية