تبعه عامر بالغنم فعفّى على أثره. وأقاما بالغار ثلاثة أيام كانت قريش أثناءها تجدّ في طلبهما غير وانية. وكيف لا تفعل وهي ترى الخط محدقا بها إن هي لم تدرك محمدا ولم تحل بينه وبين يثرب! أمّا الرجلان فأقاما بالغار ومحمد لا يفتر عن ذكر الله، وإليه أسلم أمره وإليه تصير الأمور، وأبو بكر يرهف أذنه يريد أن يعرف هل الذين يقفون أثرهما قد أصابوا من ذلك نجاحا.
وأقبل فتيان قريش، من كل بطن رجل، بأسيافهم وعصيهم وهراواتهم يدورون باحثين في كل اتجاه.
ولقوا راعيا على مقربة من غار ثور سألوه؛ فكان جوابه:
- قد يكونان بالغار، وإن كنت لم أر أحدا أمّه.
وتصبّب أبو بكر عرقا حين سمع جواب الرّاعي، وخاف أن يقتحم الباحثون عنهما الغار، فأمسك أنفاسه وبقي لا حراك به وأسلم لله أمره. وأقبل بعض القرشيين يتسلّقون إلى الغار، ثم عاد أحدهم أدراجه.
فسأله أصحابه: ما لك لم تنظر في الغار؟ فقال: إن عليه العنكبوت من قبل ميلاد محمد، وقد رأيت حمامتين وحشيّتين بفم الغار فعرفت أن ليس أحد فيه. ويزداد محمد إمعانا في الصلاة ويزداد أبو بكر خوفا، فيقترب من صاحبه ويلصق نفسه به، فيهمس محمد في أذنه: لا تحزن! إن الله معنا.
وفي رواية كتب الحديث: أن أبا بكر لمّا شعر بدنّو الباحثين قال هامسا:
- لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصارنا.
فأجابه النبيّ:
- يا أبا بكر! ما ظنك بإثنين الله ثالثهما!
وزاد القرشيين اقتناعا بأن الغار ليس به أحد أن رأوا الشجرة تدلت فروعها إلى فوهته، ولا سبيل إلى الدخول إليه من غير إزالة هذه الفروع. إذ ذاك انصرفوا وسمع اللاجئان تناديهم للأوبة من حيث أتوا، فازداد أبو بكر إيمانا بالله ورسوله، ونادى محمد: الحمد لله، الله أكبر.
نسيج العنكبوت والحمامتان والشجرة، تلك هي المعجزة التي تقصّ كتب السيرة في أمر الاختفاء بغار ثور. ووجه المعجزة فيها أن هذه الأشياء لم تكن موجودة، حتى إذا لجأ النبيّ وصاحبه إلى الغار أسرعت العنكبوت إلى نسيج بيتها تستر به من في الغار عن الأعين، وجاءت الحمامتان فباضتا عند بابه، ونمت الشجرة ولم تكن نامية. وفي هذه المعجزة يقول المستشرق درمنجم:
«هذه الأمور الثلاثة هي وحدها المعجزة التي يقصّ التاريخ الإسلامي الجدّ: نسيج عنكبوت، وهويّ حمامة، ونماء شجيرة؛ وهي أعاجيب ثلاث لها كل يوم في أرض الله نظائر» .
على أن هذه المعجزة لم ترد في سيرة ابن هشام، بل كل ما أورد هذا المؤرخ في سياق قصة الغار ما يأتي:
«عمدا إلى غار بثور- جبل أسفل مكة- فدخلاه وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر، وأمر عامر بن فهيرة أن يرعى غنمه نهاره ثم يريحها عليهما إذا أمسى في الغار. وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما ... فأقام