المشركون من الخزرج يحلفون بالله ما كان من هذا شيء. أما المسلمون فاعتصموا بالصمت حين رأوا قريشا مالت لتصديق شركائها في الدين، وعادت قريش لا تؤكد الخبر ولا تنفيه، وأخذت تتنطسه علها تقف على جليّة الأمر فيه. واحتمل أهل يثرب رحالهم وعادوا قاصدين بلدهم قبل أن تثق قريش بشيء مما حصل. فلما عرفت أن الخبر حق، وخرجت تطلب أهل يثرب، فلم تلحق منهم إلا بسعد بن عبادة، فأخذوه وردّوه إلى مكة وعذّبوه حتى أجاره جبير بن مطعم بن عديّ والحارث بن أميّة؛ لأنه كان يجير لهما من يخرجون في تجارتهما إلى الشام حين مرورهم بيثرب.
لم تبالغ قريش قطّ في فزعها ولا في تتبعها الذين بايعوا محمدا على قتالها؛ فقد عرفته ثلاث عشرة سنة متتابعة منذ بدء نبوّته، ووقف من الجهود للحرب السلبيّة التي أعلنت عليه ما جهدها وجهده، ونال منها ونال منه. عرفت ذلك القويّ بالله المستمسك برسالة الحق لا يلين فيها ولا يداجي، ولا يخاف فيها أذى ولا مساءة ولا قتلا. وقد خيل إلى قريش بعد أن أرهقته ومن معه بألوان الأذى، وبعد أن حاصرته في الشعب؛ وبعد أن أدخلت على أنفس أهل مكة جميعا من الرّوع ما صدّهم عن أتباعه، أنها توشك أن تظفر به، وأن تحصر نشاطه في الدائرة الصيقة من الأتباع الذين ظلوا على دينه، وأنه ومن معه لا يلبثون إلا قليلا حتى تضنيهم العزلة فيعودوا إلى حكمها طائعين. أمّا اليوم وإزاء هذا الحلف الجديد، فقد انفتح أمام محمد والذين معه باب الرجاء في الغلب، أو على الأقل باب الرجاء في حرية الدعوة إلى عقيدتهم، والطعن على الأصنام وعبّادها. ومن يدري ما يكون أمر القوم من بعد ذلك في شبه جزيرة العرب كلها وقد نصرتهم يثرب بأوسها وخزرجها، وقد جعلتهم بمأمن من العدوان، وفسحت لهم حرية القيام بفرائض دينهم ودعوة غيرهم إلى الانضمام إليهم! فإذا لم تقض قريش على هذه الحركة في مهدها فالخوف من المستقبل لن يزال يساورها وفوز محمد عليها لن يزال يقض مضجعها.
لذلك أمعنت تفكر فيما تفعل لتحبط ما قام به محمد، ولتقضي على هذه الحركة الجديدة. ولم يكن هو من ناحيته أقل من قريش تفكيرا؛ إن هذا الباب الذي فتح الله أمامه هو باب العزّة لدين الله، والسمو لكلمة الحق. فالمعركة الناشبة اليوم بينه وبين قريش هي أشدّ ما وقع منذ بعثه، وهي معركة حياة أو موت بالنسبة له ولها، والغلب لا ريب للصادقين. فليجمع أمره، وليستعن بالله وليكن لما تكيد قريش أشد ازدراء مما كان في كل ما سلف، وليقدم ولكن في حكمة وأناة ودقة؛ فالموقف موقف حنكة السياسيّ والقائد الدقيق المداورة.
وأمر أصحابه أن يلحقوا الأنصار بيثرب، على أن يتركوا مكة متفرّقين حتى لا يثيروا ثائرة قريش عليهم.
وبدأ المسلمون يهاجرون فرادى أو نفرا قليلا. لكنّ قريشا فطنت للأمر، فحاولت أن ترد كل من استطاعت ردّه إلى مكة لتفتنه عن دينه أو لتعذّبه وتنكل به. وبلغت من ذلك أنها كانت تحول بين الزوج وزوجه إذا كانت المرأة من قريش فلا تدعها تسير معه، وأنها كانت تحبس من تستطيع حبسه ممن لم يطعها. لكنها لم تكن تقدر على أكثر من ذلك، حتى لا تكون حرب أهليّة بين مختلف قبائلها إذا هي همّت بقتل واحد من أهل هذه القبائل. وتتابعت هجرة المسلمين إلى يثرب ومحمد مقيم حيث هو، لا يعرف أحد هل اعتزم الإقامة أم قرّر الهجرة. وما كانوا ليعرفوا وقد أذن لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة من قبل وظل هو بمكة يدعو سائر أهلها إلى الإسلام. وبلغ من ذلك أن أبا بكر استأذنه في الهجرة إلى يثرب؛ فقال له: لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا، ولم يزد على ذلك.