الأوس أن تسلموني فافعلوا. فعاد الأوس للقتال وبهم من الالم مما أصابهم ما جعلهم يستبسلون مستيئسين، فيهزمون الخزرج شرّ هزيمة. وجعلت الأوس تحرق على الخزرج نخلها ودورها، حتى أجارها سعد بن معاذ الأشهلي. وأراد حضير أن يأتي الخزرج قصرا قصرا، ودارا دارا، يقتل ويهدم لا يبقي منهم أحدا، لولا أن منعه أبو قيس بن الأسلت إبقاء على بني دينهم؛ «فجوارهم خير من جوار الثعالب» .
واستعادت اليهود بعد هذا اليوم مكانتها بيثرب. ورأى المنتصر والمهزوم من الأوس والخزرج جميعا سوء ما صنعوا، وفكروا في عاقبة أمرهم، وتطلعوا إلى إقامة ملك عليهم. واختاروا لذلك عبد الله بن محمد من الخزرج المهزومة لمكانته وحسن رأيه. لكن تطوّر الأحوال تطوّرا سريعا حال دون ما أرادوا. ذلك أن نفرا من الخزرج خرجوا إلى مكة في موسم الحج، فلقيهم محمد فسألهم عن شأنهم وعرف أنهم من موالي يهود. وقد كان اليهود بيثرب يقولون لهم إذا اختلفوا وإياهم: إن نبيّا مبعوثا الآن قد أطل زمانه، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما كلم النبيّ أولئك النفر ودعاهم إلى الله، نظر بعضهم إلى بعض وقالوا: والله إنه للنبي الذي تواعدكم به يهود، فلا يسبقنّكم إليه. وأجابوا محمدا إلى دعوته وأسلموا، وقالوا له: «إنّا قد تركنا قومنا- أي الأوس والخزرج- ولا قوم بينهم من العداوة والشرّ ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك. وإن يجمعهم عليك فلا رجل أعز منك» . وعاد هؤلاء النفر إلى المدينة، ومن بينهم اثنان من بني النجار أخوال عبد المطلب جد محمد الذي كفله منذ مولده، فذكروا لقومهم إسلامهم، فألفوا قلوبا منشرحة ونفوسا متلهفة لدين يجلهم موحدين كاليهود، بل يجعلهم خيرا منهم، فلم تبق دار من دور الأوس والخزرج جميعا إلا فيها ذكر محمد عليه السلام.
فلما استدار العام وعادت الأشهر الحرم وجاء موعد الحج لمكة، أتى الموسم اثنا عشر رجلا من أهل يثرب فالتقوا هم والنبي بالعقبة، فبايعوه بيعة العقبة الأولى. بايعوه على ألا يشرك احدهم بالله شيئا، ولا يسرق ولا يزني، ولا يقتل أولاده ولا يأتي ببهتان يفتريه بين يديه ولا رجليه ولا يعصيه في معروف، فإن وفي ذلك فله الجنة، وإن غشي من ذلك شيئا فأمره إلى الله، إن شاء عذب وإن شاء غفر.
وأنفذ محمد معهم مصعب بن عمير يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين. ازداد الإسلام بعد هذه البيعة بيثرب انتشارا. وأقام مصعب بين المسلمين من الأوس والخزرج يعلمهم دينهم، ويرى مغتبطا ازدياد الأنصار لأمر الله ولكلمة الحق. فلما آذنت الأشهر الحرم أن تعود، لحق بمكة وقصّ على محمد خبر المسلمين بالمدينة، وما هم عليه من منعة وقوة، وأنهم سيجيئون إلى مكة موسم حج هذا العام الجديد أكثر عددا وأعظم بالله إيمانا.
دعت أخبار مصعب محمدا أن يفكر في الأمر طويلا. هاهم أولاء أتباعه بيثرب يزدادون كل يوم عددا وسلطانا، ولا يجدون من أذى اليهود ولا من أذى المشركين ما يجد زملاؤهم بمكة من أذى قريش. وها هي ذي يثرب بها من الرخاء أكثر مما بمكة، بها زرع ونخيل وأعناب. أو ليس من الخير أن يهاجر المسلمون المكيون إلى إخوانهم هناك ليجدوا عندهم أمنا، وليسلموا من فتنة قريش إياهم عن دينهم! وذكر محمد أثناء تفكيره أولئك النّفر من يثرب الذين كانوا أول من أسلم، والذين ذكروا ما بين الأوس والخزرج من عداوة، أنهم إذا جمعهم الله به فلا رجل أعزّ منه. أو ليس من الخير، وقد جمعهم الله به، أن يهاجر هو أيضا! إنه لا يحب أن يردّ على قريش مساآتها وهو يعلم أنه أضعف منها، وأن بني هاشم وبني المطلب إن منعوه من الاعتداء عليه فلن ينصروه معتديا، ولن يمنعوا الذين اتّبعوه من اعتداء قريش عليهم ومن إصابتها إياهم بأنواع المساءة. وإذا كان الإيمان