أنحاء شبه الجزيرة بمكة، بادأ القبائل فدعاها إلى الحق الذي جاء به، غير آبه أن تبدي هذه القبائل الرغبة عن دعوته والإعراض عنه، أو تردّه ردّا غير جميل. ويتحرّش به بعض سفهاء قريش حين إبلاغه الناس رسالة ربه وينالونه بالسوء، فلا تغير مساآتهم رضا نفسه وطمأنينتها إلى غده. إن الله ذا الجلال قد بعثه بالحق، فهو لا ريب ناصر هذا الحق ومؤيده. وهو قد أوحي إليه أن يجادل الناس بالتي هي أحسن، (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (?) ، وأن يقول لهم قولا لينا لعلهم يذكرون أو يخشون. فليصبر على أذاهم، إن الله مع الصابرين.
ولم يطل بمحمد الانتظار أكثر من بضع سنين حتى بدت له في الأفق تباشير الفوز آتية طلائعها من ناحية يثرب. ولمحمد بيثرب علاقة غير علاقة التجارة؛ له بها علاقة قربى، وله فيها قبر كانت أمّه تحج إليه قبل موتها في كل عام مرّة. أمّا ذوو قرباه فأولئك بنو النّجّار أخوال جده عبد المطلب. وأما ذلك القبر فقبر أبيه عبد الله بن عبد المطلب. إلى هذا القبر كانت تحج آمنة الزوج الوفية، وكان يحج عبد المطلب الأب الذي فقد ابنه وهو في شرخ شبابه وريعان قوّته. وقد صحب محمد أمّه إلى يثرب في السادسة من عمره، فزار معها قبر أبيه ثم قفلا عائدين، فمرضت آمنة في الطريق وماتت ودفنت بالأبواء في منتصف الطريق بين يثرب ومكة. فلا عجب أن تبدأ تباشير الفوز لمحمد من ناحية بلد له به هذه الصلة وإلى ناحيته كان يتجه حين يصلي جاعلا قبلته المسجد الأقصى ببيت المقدس، مقام سلفيه موسى وعيسى، ولا عجب أن تهيّئ المقادير ليثرب هذا الحظ ليتم لمحمد بها النصر، وللإسلام بها الفوز والانتشار.
هيأت المقادير ليثرب هذا الحظ بما لم تهيئه لبلد آخر. فقد كان الأوس والخزرج من عباد الأوثان بيثرب يجاورون يهودها جوارا كثيرا ما شابته البغضاء وما تعدى البغضاء إلى القتال. وإن التاريخ ليروي أن المسيحيين في الشام، ممن كانوا يتبعون الدولة الرومانية الشرقية، وكانوا يمقتون اليهود أشد المقت لاعتقادهم أنهم هم الذين صلبوا المسيح ونكلوا به، قد أغاروا على يثرب ليقتلوا يهودها. فلما لم يظفروا بهم استعانوا بالأوس والخزرج على استدراجهم، ثم قتلوا عددا منهم غير قليل. وأنزل ذلك اليهود عن مكان السيادة الذي كان لهم، ورفع عرب الأوس والخزرج إلى مكانة غير مكانة العمال التي كانوا مقصورين من قبل عليها. وقد حاول العرب بعد ذلك أن يوقعوا باليهود مرة أخرى ليزدادوا في المدينة العامرة بالزراعة والماء سلطانا، فنجحوا في كيدهم بعض النجاح، ثم فطن اليهود لوقيعتهم بهم. بذلك تمكنت العداوة والبغضاء في نفوس يهود يثرب لأوسها وخزرجها، وفي نفوس الأوس والخزرج لليهود. ورأى اتباع موسى أن مقابلة القتال بالقتال قد تهوي بهم إلى الفناء إذا وجد الأوس والخزرج حذلفا من بني دينهم العرب على أهل الكتاب هؤلاء، فسلكوا في سياستهم خطة غير خطة الغلب في المعارك. لجئوا إلى سياسة الوقيعة والتفريق، بأن دسوا بين الأوس والخزرج وأغروا بينهم بالعداوة والبغضاء حتى جعلوا كل فريق على أهبة مستمرة للقتل والقتال. بذلك أمن اليهود عدوانهم، وجعلوا يزيدون في تجارتهم وفي ثروتهم ويستعيدون ما فقدوا من سيادة، ويستردون ما أضاعوا من دار ومن عقار.