تجري بأن محمدا ركن إلى قريش بالفعل. وأن قريشا فتنته بالفعل فقال على الله ما لم يقل. والآيات هنا تفيد أن الله ثبّته فلم يفعل. فإذا ذكرت كذلك أن كتب التفسير وأسباب النزول جعلت لهذه الآيات موضعا غير مسألة الغرانيق، رأيت أن الاحتجاج بها في مسألة تتنافى مع عصمة الرسل في تبليغ رسالاتهم، وتتنافى مع تاريخ محمد كله، احتجاج متهافت، بل احتجاج سقيم.
أما الآيات (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ... ) فلا صلة لها بحديث الغرانيق البتة، فضلا عن ذكرها أن الله ينسخ ما يلقي الشيطان ويجعله فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم، ويحكم الله آياته والله عليم حكيم.
وندع هذا إلى تمحيص القصة التمحيص العلمي الذي يثبت عدم صحتها. وأوّل ما يدل على ذلك تعدّد الروايات فيها، فقد رويت، كما سبق القول على أنها: تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى. ورواها بعضهم: «الغرانقة العلا إن شفاعتهم ترتجى» . وروى آخرون: «إن شفاعتهم ترتجى» دون ذكر الغرانقة أو الغرانيق. وفي رواية رابعة: «وإنها لهي الغرانيق العلا» وفي رواية خامسة: «وإنهن لهن الغرانيق العلا.
وإن شفاعتهم لهي التي ترتجى» وقد وردت في بعض كتب الحديث روايات أخرى غير هذه الروايات الخمس.
وهذا التعدّد في الروايات يدلّ على أن الحديث موضوع، وأنه من وضع الزنادقة، كما قال ابن إسحاق، وأن الغرض منه التشكيك في صدق تبليغ محمد رسالات ربه.
ودليل آخر أقوى وأقطع؛ ذلك سياق سورة النجم وعدم احتماله لمسألة الغرانيق. فالسياق يجري بقوله تعالى: (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى. أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى. إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ. إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) (?) .
وهذا السياق صريح في أن اللّات والعزّى أسماء سمّاها المشركون هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان. فكيف يحتمل أن يجري السياق بما يأتي: «أفرأيتم اللّات والعزّى. ومناة الثالثة الآخرى. تلك الغرانيق العلا. إن شفاعتهنّ ترتجى. ألكم الذكر وله الأنثى. تلك اذا قسمة ضيزى. إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان» إن في هذا السياق من الفساد والاضطراب والتناقض، ومن مدح اللّات والعزّى ومناة الثالثة الآخرى وذمها في أربع آيات متعاقبة، ما لا يسلّم به عقل ولا يقول به إنسان، ولا تبقى معه شبهة في أن حديث الغرانيق مفترى وضعه الزنادقة لغاياتهم، وصدّقه من يسيغون كل غريب ومن تقبل عقولهم ما لا يسيغ العقل المنطقيّ.
وحجة أخرى ساقها المغفور له الأستاذ محمد عبده حين كتب يفنّد قصة الغرانيق. تلك أن وصف العرب لألهتهم بأنها الغرانيق لم يرد في نظمهم ولا في خطبهم، ولم ينقل عن أحد أن ذلك الوصف كان جاريا على ألسنتهم. وإنما ورد الغرنوق والغرنيق على أنه اسم لطائر مائيّ أسود أو أبيض، والشابّ الأبيض الجميل. ولا شيء من ذلك يلائم معنى الآلهة أو وصفها عند العرب.
بقيت حجة قاطعة، نسوقها للدلالة على استحالة قصة الغرانيق هذه من حياة محمد نفسه؛ فهو منذ