لشتم آلهتهم فعادوا له بالشّر. وأتمر المسلمون ما يصنعون، فلم يطيقوا عن لقاء أهلهم صبرا فدخلوا مكة.

وإنما ارتدّ محمد عن ذكر آلهة قريش بالخير، في مختلف الروايات التي أثبتت هذا الخبر، لأنه كبر عليه قول قريش: «أمّا إذ جعلت لآلهتنا نصيبا فنحن معك» ، ولأنه جلس في بيته، حتى إذا أمسى أتاه جبريل فعرض النبيّ عليه سورة النجم، فقال جبريل أوجئتك بهاتين الكلمتين؟! - مشيرا إلى «تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى» . قال محمد: قلت على الله ما لم يقل! ثم أوحى الله إليه: (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا. وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا. إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) (?) . وبذلك عاد يذكر آلهة قريش بالشر ويسبهم، وعادت قريش لمناوأته وإيذاء أصحابه.

تهافت حديث الغرانيق

وهذا حديث الغرانيق؛ رواه غير واحد من كتّاب السيرة، وأشار إليه غير واحد من المفسرين، ووقف عنده كثيرون من المستشرقين طويلا. وهو حديث ظاهر التهافت ينقضه قليل من التمحيص. وهو بعد حديث ينقض ما لكل نبيّ من العصمة في تبليغ رسالات ربه. فمن عجب أن يأخذ به بعض كتّاب السيرة وبعض المفسرين المسلمين: ولذلك لم يتردّد ابن إسحاق حين سئل عنه في أن قال: إنه من وضع الزنادقة. ولكن بعض الذين أخذوا به حاولوا تسويغه استندوا إلى الآيات: (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ..) ، وإلى قوله تعالى:

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) (?) .

ويفسر بعضهم كلمة «تمنّى» في الآية بمعنى قرأ، ويفسرها آخرون بمعنى الأمنية المعروفة. ويذهب هؤلاء وأولئك، ويتابعهم المستشرقون، إلى أن النبيّ بلغ منه أذى المشركين أصحابه؛ إذ كانوا يقتلون بعضهم ويلقون بعضا في الصحراء يلفحهم لظى الشمس المحرقة، وقد أوقروهم بالحجارة كما فعلوا ببلال، حتى اضطر إلى الإذن لهم في الهجرة إلى الحبشة. كما بلغ منه جفاء قومه إيّاه وإعراضهم عنه. ولمّا كان حريصا على إسلامهم ونجاتهم من عبادة الأصنام، تقرّب إليهم وتلا سورة النجم وأضاف إليها حكاية الغرانيق، فلما سجد سجدوا معه، وأظهروا له الميل لاتباعه ما دام قد جعل لآلهتهم نصيبا مع الله.

ويضيف سيروليم موير إلى هذه الرواية، التي وردت في بعض كتب السيرة وكتب التفسير، حجة يراها قاطعة بصحة حديث الغرانيق. ذلك أن المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة لم يك قد مضى على هجرتهم إليها غير ثلاثة أشهر، أجارهم النجاشي أثناءها، وأحسن جوارهم. فلو لم يكن قد ترامى إليهم خبر الصلح بين محمد وقريش لما دفعهم دافع إلى العود حرصا على الاتصال بأهلهم وعشائرهم. وأنى يكون صلح بين محمد وقريش إذ لم يسع محمد إليه، وقد كان في مكة أقل نفرا وأضعف قوة، وقد كان أصحابه أعجز من أن يمنعوا أنفسهم من أذى قريش ومن تعذيبهم إياهم!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015