أعرابيّ:

إذا ما رفيقي لم يكن خلف ناقتي ... له مركبٌ فضلٌ فلا حملتْ رَحْلِي

ولم يكُ من زادي له نصفُ مزودي ... فلا كنتُ ذا زادٍ ولا كنتُ ذا أهلِ

شريكان فيما نحن فيه وقد أرَى ... عليَّ له فضلاً بما نالَ من فضلِي

أعرابيّ يرثي ابناً له:

لصقتَ بالقلبِ حتَّى كنتَ أسودَهُ ... وبالجوانحِ حتَّى كنتَ لِي كبِدا

فلستُ أدرِي وكلٌّ منك يخلِجُني ... أكنتَ لي مهجةً أمْ كنتَ لي ولَدا

أعرابيّ:

ألا يا هوَى ليلَى أفِقْ عن حشاشتي ... وهل حبُّ ليلَى عن صداك مُفيقُ

أما هو إلا الموت أومنك راحة ... أما بين بينِ الخليتن طريق

إعرابي:

وشى الناس حتى لو تمر بأعظمى ... على النعش قالوا مرزوراً على نعم

ولا نُعمَ إلاَّ أنَّ باقيَ وصلها ... على النَّأيِ مِثلٌ للمطيَّةِ والجسمِ

أعرابيّ:

ولمَّا رأيتُ البَينَ قد صدعَ العصا ... وفرَّق أُلاَّفاً شديداً عويلُها

رفعتُ فأُنسيتُ الحمولَ الَّتي غدتْ ... بمطروفةٍ ينهلُّ بالدَّمعِ جُولُها

إذا نحنُ ذُدناها قليلاً تهلَّلتْ ... مدامعُها حتَّى يُخلَّى سبيلُها

أعرابيّ وصحب رجلاً فعدا على رحله فسرقه فقال:

فلو أنَّني صاحبتُ ثوبَ بن مالك ... وأدهم ما باتا يدبّان في رَحْلي

وما ضرَّني في صُحبتي غير أنَّني ... إذا أنا صاحبتُ امرأً خلتُهُ مِثلي

أعرابيّ:

خذوا الحقَّ لا أُعطيكم اليومَ غيرَه ... وللحقِّ إن لم تقبَلوا الحقَّ دافعُ

ولا الضَّيم أُعطيكم من أجل وعيدكم ... ولا الحقّ من بغضائكم أنا مانعُ

سُئل المفضّل الضَّبِّيّ عن أبي حيَّ النُّميريّ فقال: اسمه الهيثم بن الرَّبيع، وكان شاعراً على لُوثةٍ فيه، قال الأصمعي: كان أبو حيَّة شاعراً وكان أجبنَ العرب وأكذبهم، فمن جُبنه خبره مع الكلب الَّذي دخل بيته وهو خبر معروف، ومن كذبه ما حكاه، قال: كنت في بعض الفلوات فأرملتُ أيَّاماً من الزَّاد، ثمَّ عنَّ لي سربٌ من ظباء فتعمَّدتُ بسهمي ظبية من السِّرب، فلمَّا أطلقتُ السّهم وكاد يخالطها ذكرتُ هوَى لي بالرَّمل وشبَّهت الظبية به، فلحقت السّهم وقد كاد أن يصل إليها حتَّى قبضت عليه فلم يُصبها. ولا يجوز أن يكون في الكذب أعظم من هذا. ومن أخباره الطريفة ونوادره العجيبة ما حدَّثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزديّ قال: حدَّثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ عن عمّه عن أبي حيَّان العُكلي قال: أقبلتُ أريد البصرة فإذا أنا بأبي حيَّة النميريّ مُلاقياً لي، فقلت: من أين بك يا أبا حيَّة؟ قال: من بلدٍ ملوكه أوساط، وقرّاؤه أشراط، وعُربانه أنباط، والنَّاس بعد ذلك فيه أخلاطٌ، قلت: فهل لك في نفسك من خبر تذكره أو نبأ تأثره، قال: شذّ ما لا يُنبئك عجبا لا مَيْنا ولا كذبا، كان لي بكرات عشر أرعيتهنّ أُنف الرَّبيع في جَناب مريع قد غذته السماء بدرَّتها وفوَّقته الأرض بزينتها فهو كالنَّمارق المصفوفة والزَّرابيّ المبثوثة، يروق عين النَّاظر ويملأُ نفس الرَّائد حتَّى إذا ضاق بهنَّ السَّهل فرحاً والوعر مرحاً وصرنَ كالدُّمى في حليهنّ أو المها في حسنهنّ يحملن أسنمة مفعمة كالآطام المشيَّدة على الآكام المنيفة أدركني شؤم الجدّ ونكد الحظّ فهجم عليَّ حيٌّ عكرٌ ونعمٌ دثرٌ فأزالوني عن الموضع وأجلوني عنه، فانصرفت ببكراتي أسفاً موتوراً مضطهداً مقهوراً أتتبَّع بهنَّ النهار اليفاع وآوي بهنَّ اللَّيل الوهاد حتَّى استبدلن بحال حالاً وتساوكنَ ضعفاً وهزالاً، ونال منهنَّ القرّ وفشا فيهنّ الضرّ فيمَّمت بهنَّ الحاضرة أبتغي جاهلاً أخدعه أو خائناً أصرعه، فأتاح اللهُ لي علجاً ضيطراً كالصَّخرة الململة أو العلاوة المهندمة فابتاعهنَّ منِّي بعد المساومة والمراوضة والمشاولة بمائة درهم كلّ واحدةٍ بيض أوضاح، جياد صحاح، فلما آن وقت النقد أنطاني قراضة له كرضاضة الزُّجاج، وبعثرة الدّجاج، فأطرتها غضباً في الهواء، وانبعث عليها أحابيش الغوغاء، فغادروا الأرض منها صفراً، والمحلَّ قفراً، من بين حاثٍ في حجره ومهيل إلى كمِّه وأنا واقف أتعجَّب من نهبهم لها وإكبابهم عليها. ثمَّ قلت للعلج: عاودني النَّقد، لا أُمَّ لك، على ما أوجبه الشَّرط وأحكمه العقد، فضمَّ يده وحبق فيها حبقة بفِيه، فقلت: ما هذا ويلك؟ قال: هذا مالُك، فلهزتُهُ - وأبيك - لهزةً ما كان فيها لمثل العلج متكلّمٌ لولا ثقته ببطشه وإدلاله بأيْده وأعوانه من السّفلة، فقال: يا أعرابيّ ما أحسبك تعرف التّشويص، فقلت: لا، وما التّشويص ثكلتك أُمّك؟ فجمع إبهامه مع أصابعه وجعل يده كالقطعاء ثمَّ ذبلني بها دوَين الشّراسيف ممَّا يلي الشَّاكلة ذبلةً ألمت منها ألماً شديداً فنفحته بعصاي نفحة أطارت العمامة عن رأسه وثلمتُ ثلماً في يافوخه ليس بالخفيّ صغراً ولا المفرط كبراً وأسلت الدّمّ على وجهه. فلما بصر العلج بالدّمّ انقلبت عيناه واربدَّ لونه وكشَّر عن أنيابه وقبض على حلقي بإحدى يديه ودعم بالأخرى قَفاي وضغطني ضغطةً قدحت لها عيناي ناراً وأنفي شراراً وأحسست روحي تجول في صدري ثمَّ دحا بي فخررت على أُمّ رأسي وقمت كالمهموم الوسنان أو الثّمل السّكران وناديت يا للعرب! يا للعرب! أوَيقتل ذؤابة بني نمير وذو فخرها وقدرها وشِعرها بين القزم والعضاريط؟ وإذا قد أقبل شابٌّ تملأُ العين صورته ويبهر القلب جلاله وهيبته، فولَّى أنصار العلج من حوله وعلاه بمدمج كان بيده وأشلى عليه حمرانه وسودانه، فمرَّ هذا هرباً في سككٍ متشعّبة وطرق متلاحزة، وأيم الله أن لو لحقته لدسته دوس الحَلَمة، ولخبطته خبط السَّلمة، واستنقذ الشَّابّ بكراتي وسلَّمهنَّ إلى من يحفظهنّ عليَّ وعطف بي غلمانه إلى منزلٍ جلَّت محاسنه أن توصف، وكثرت ظرائفه أن تنعت، ثمَّ أتونا بالخوان يحمله وصيفان مقرّطان متوّمان وعليه أرغفةٌ كأخفاف العيس ليست بطراميس ومهلهلاتٌ يضحكن عن مثل حباب القطر ولؤلؤ البحر، ثمَّ والى علينا الصّحاف المترعة

والألوان المختلفة نمتري منها ثمار كلّ شجرة، ونستنشي منها ريح كلّ ثمرة، فكنتُ أسرع النقل وأجتنب المضغ وأعدل إلى اللحم عن البقل، ثمَّ أتونا بعرموس حنيذٍ مكنت أملّخه إملاخ السَّبع، وأقذف به في مثل وِجار الضبع، ثمَّ أردفوا ذاك - يا ابن عمّ - بصفحة زجاج فيها هنةٌ برَّاقة رجراجة أشبه شيءٍ بالعروس المحلّقة في ائتلاقها، والعذراء المجلاّة في إشراقها، فيها طعام أهل الجنَّة، بلا شكّ ولا مظنَّة، فكنت - وعيشك - أكسع بالإبهام وأرفدها سائر الأصابع وأديل أمثال الأثافيّ وألقم لقم النّضو الحسير. ثمَّ جاءوا - يا هناه - بشراب لهم كنار الحباحب وأعين الجنادب يستنكه عن مثل جني الورد ونسيم الياسمين الغضّ، ثمَّ كثر هتافهم بظالم، فقلت: وما ظالم، لا خصب جنابه ولا أمطر نوءه، وذلك لما هجس في نفسي من أمر العلج، فأقبل إلينا هَنٌ أدلم له شعر كدحارج البعر يحمل هامة ضخمة كهامة الشارف وعينين سجراوين وأُذنين غضفاوين ومنخرين رحبين وله شفتان كرحارح المرّان وكفَّان كزّتان شفنة أصابعهما قحلةٌ أشاجعهما فبُثَّت له الوسائد ونُضدت له النَّضائد وأنا متعجَّب منه لا معجب به، ثمَّ جاءوا بمثل الفخذ الممكورة والسَّاق المجدولة خشبةً عيناها في صدرها ورِجلها في رأسها وأصابعها تدبِّر أمرها قد عالوا عليها حبالاً دقاقاً محكمة الفتل جيّدة الصنع، فقلت: أربعة مختلفة في الصَّنعة متفاضلة في الرُّتبة، لئن لمن يعرضني الخطل أنَّها لشبه أميرٍ ووزيرٍ وكاتبٍ وخادمٍ، فللأمير البربرة وللوزير الزَّمجرة وللكاتب الهمهمة وللخادم.....، ثمَّ شدا ظالم بمقطّعات من مليح أشعاره وموصلات من ألحانه يُديرها بصوتٍ له كدويّ الرَّعد القاصف، وبنفس كنفس الرِّيح العاصف، فقلت: بأبي وأُمِّي من طمطمانيٍّ، ما أسمج منظرك وأحسن مخبرك! يا ليت إنك عبدٌ لي، فقال: وما كنت تصنع بي يا أعرابيّ؟ فقلت: ترعى عليَّ بكراتي، وتطربني في خلواتي، فاستفرغ العبد الضَّحك واستفزَّه الطَّرب ثمَّ غشيت - وأبيك - عيني السَّمادير من كثرة الشُّرب وخالط الوله عقلي، فأنكرت ما كنت أعرف من أمري، فلم أعلم بما كان منِّي إلى متع النهار من الغد، لكنني أهبُّ من رقدتي فإذا أنا فوق مزبلة في سوءةٍ سوآء وفضيحة شنعاء، فجمعت ثيابي الَّتي شانها اللهُ وشان لابسها، وطفق أغيلمة سوءٍ من ذلك الحيّ ينبذونني نبذاً قبيحاً وسعتهم بلساني سبّاً وبالجندل قذفاً وفتُّهم ولم أكد سبقاً، قلتُ: فهل قلت في ذلك شيئاً يا أبا حيَّة، فقال: إيه الله، نعم، قلتُ: فأنشدني ما قلتَ، فأنشدني:

ألم تَرَني والعلجَ في السُّوق بيننا ... مناوشةٌ في بيعنا وتلاطمُ

رأى بكراتٍ بالياتٍ تساوَكتْ ... بها ذهبتْ من دونهنَّ الدَّراهمُ

أسلتُ دماءَ العلج من أُمِّ رأسهِ ... بمنحوتةٍ تستكُّ منها الخياشمُ

تعمَّد حلْقي من يدَيه بعصره ... محلّجة تنهدُّ منها اللَّهازمُ

وشوَّصَني تشويصةً خلتُ أنَّها ... ستأتي على نفسي فها أنا سالمُ

وفاتَ الحسامُ العضبُ رجعة طَرفه ... وولَّيت عنه غارماً وهو غانمُ

ورحتُ إلى ظلٍّ ظليلٍ ومنظرٍ ... أنيق وما يهواه لاهٍ وطاعمُ

وزيتيَّة صهباء أخرج كرمَها ... لشاربها ن جنَّة الخلد آدمُ

وتاهتْ بألباب النَّدامَى خُشيبة ... بها عند تحريك الحبالِ غماغمُ

إذا ظالمٌ أنحَى عليها بكفِّه ... أماتَ وأحيَا من يغنِّيه ظالمُ

فبتُّ وندماني فريقان قاعدٌ ... من السُّكر في عيني وآخرَ قائمُ

وأصبحتُ في يومٍ من الشَّرِّ كالحٍ ... كأنِّي فيما كنتُ بالأمسِ حالمُ

تقولُ لي الصّبيانُ إنَّك راذِمٌ ... ورغميَ فيما قيل إنَّك راذِمُ

فقلتُ لهم خلُّو الطريقَ فإنني ... كريم نَماني الصَّالحون الأكارمُ

لئن كانت الوجعاء منِّي فربَّما ... يخون الفتَى وجعاؤه وهوَ نائمُ

أما في خفوق الشَّرْب أن يحمل الأذَى ... ويكرم عن نشر القبيحِ المُنادمُ

ويستأنف النّدمان أُنساً مجدَّدا ... فيرفعُ مَعْ رفع النَّبيذِ الملاوِمُ

وأبو حيَّة، مع هذه النَّوادر الَّتي تُحكى عنه، شاعرٌ مجوِّد، فمن جيّد شِعره قوله:

ألا حيِّيَا بالجناب الدّيارا ... وهل يرجعنَّ ديارٌ حِوارا

زمانَ الصِّبا ليت أيَّامَنا ... رجعنَ لنا الصَّالحاتِ القِصارا

زمان عليَّ غرابٌ غُدافٌ ... فطيَّره الشَّيبُ عنِّي وطارا

فأصبح موقعَهُ نابضاً ... محيطاً خِطاماً محيطاً عذارا

فلا يُبعِدِ اللهُ ذاك الغداف ... وإن كان لا هُوَ إلاَّ ادِّكارا

وهازئةٍ أنْ رأتْ كَبرةً ... تلفَّعَ رأسي بها فاسْتَنارا

أجارَتنا إنَّ ريب المنونِ ... قبليَ غالَ الرِّجالَ الخِيارا

فإمَّا ترَى لمَّتي هكذا ... فأكثرتِ ممَّا رأيتِ النِّفارا

كمل الجزء الأول من الأشباه والنظائر ويتلوه في الجزء الثاني " قال المرقّش الأكبر ".

طور بواسطة نورين ميديا © 2015