جنادل أملاء الأكف كأنها ... رؤوس رجال حلّقت بالمواسم.
أعرابيّ:
نظرت إلى نار لعصماء أوقِدَتْ ... وفي القوم عنها والمطيّ صُدودُ
أكاتِم أصحابي هواها وليتَني ... لما بين أيدي المصطلين وقودُ
حبس بعض الولاة أعرابياً وقيَّده بقيدين فقال:
حبوني بخلخالين ليسا بفضَّة ... ولا ذهب عارٌ عليَّ يسيرُ
وقد وعدوني ثالثاً من قيودهم ... وإنِّي بقيد رابعٍ لظهيرُ
وقال جعفر بن عُلبة الحارثي:
وقد قلت يوماً للفريقين عرِّجا ... عليَّ وشدّا لي على جملي رحلي
ولا تعجلا بي بارك الله فيكما ... فقد كنت وقَّافاً على ذي هوى مثلي
أعرابيّ:
فأبْلغ عامراً عنِّي رسولاً ... وهل تجد النصيح بكلّ وادِ
تعلَّمْ أنَّ أكثر من تراهم ... وإنْ ضحكوا إليك من الأعادي
وقال عمار بن ثقيف الهلالي:
يا ربّ قائلة يوماً لجارتها ... هل أنتِ مخبرتي ما شأنُ عمّارِ
قالتْ أرى رجلاً بادٍ أشاجعُه ... كأنَّه ناقهٌ أو نضو أسفارِ
إمّا تريني لجسمي غير محتشدٍ ... فإنَّني حشد للضيف والجارِ
وما على الحرّ أن تعرى أشاجعُه ... أو يلبس الخلَق المرقوع من عارِ
هذا البيت مثل قول الآخر:
قد يدرك الشرفَ الفتَى ورداءهُ ... خلَق وجيبُ قميصه مرقوعُ
وهذا البيت أجود لفظاً وإغراقاً في المعنى.
أعرابيّ:
أكرمْ أخاك الدهرَ ما كنتما معاً ... كفى بالمماتِ فرقة وتنائِيا
إذا جئتُ أرضاً بعد طول اجتنابها ... تنكَّرتُ أهلي والبلاد كما هيا
أما البيت الأول فمثل قول العجّاج:
واسْتَعجلَ الدَّهر وفيه كافِ ... لفرقة الأحباب والأُلاَّفِ
وأخذه آخر فقال:
فلا تسبق بهجرك ريبَ دهر ... فإنّ الدَّهر يفعل ما يُريد
وأخذه آخر فقال:
كفى بمرور الدَّهر يا أمَّ مالك ... وبالموتِ قطَّاعاً لكلّ قرين
وأخذه عبيد الله بن عبد الله بن طاهر فقال:
رُويدكِ إنَّ الدَّهر فيه كفاية ... لتفريقِ ذات البين فانتظري الدهرا
وقوله " إذا زرتُ أرضاً بعد طول اجتنابها " مثل قول زهير:
بلينا وما تَبْلى النجومُ الطوالعُ ... وتبقى الجبالُ بعدنا والمصانعُ
أعرابي ومدح قوماً:
وعافوا حياض الماءِ فاختلَجتْهم ... حياضُ المنايا عن لئيم المشاربِ
فماتوا ظماءً خيفة العار وابتنَوا ... مكارمَ ناطوا عزّها بالكواكبِ
شرَوا أنفساً كانوا قديماً أضِنَّةً ... بها طمعاً في باقيات العواقبِ
فأضحَوا وهم سنُّوا الوفاء وأورثوا ... مواريثَ مجد ذكرُها غيرُ ذاهبِ
هذا مثل قول الآخر:
إنَّ الألى بالطَّف من آل هاشم ... تآسوا فسنَّوا للكرام التآسِيا
أعرابي:
ألا طرقَت أسماءُ رَحْلي ودونها ... حِقافٌ ومنقاد من الرمل أعْنَقُ
ألمَّتْ بكالسَيف المحلّى ونضوة ... لها مدمعٌ خِلو ولَحْيٌ معرَّقُ
سرى ما سرى ثمَّ استغاث برفعه ... وقد لاح شِمراخٌ من الصبح أبلقُ
أقال لكِ الواشون باح وصدرُه ... على بعض أطراف الودائع مُغلقُ
وما باح إلاَّ أنَّ إنسانَ عينه ... لذكراك من ماءِ الصبابة يَعْرقُ
عليه متعلق في قوله " على بعض أطراف الودائع مغلق " لأنه ذكر بعضاً ولم يذكر كلاً، فيجوز أن يكون أذاع من سرِّها شيئاً وكتم شيئاً.
أعرابي يهجو أباه:
إذا كانت الآباءُ مثل أب لنا ... فلا أبقتِ الدُّنيا على ظهرها أبا
إذا شابَ رأس المرء أقصر وارعوى ... وإنَّ أبانا حين شاب تشبَّبا
أعرابي يهجو قوماً وهو زياد الأعجم:
فمَنْ أنتم إنّا نسينا من أنتم ... وريحكُم من أيّ ريح الأعاصرِ
أأنتم أولى جئتم مع البقل والدَّبَى ... فطارَ وهذا شخصُكم غير طائرِ
فلم تعرِفوا إلاَّ بمن كان قبلكم ... وما تدرِكوا إلاَّ مدَقَّ الحوافرِ
لمّا أسنَّ قيس بن زهير العبسي وضجر من الحروب التي كانت بينه وبين بني ذبيان وغيرهم من العرب، أشار على قومه بالرجوع إلى قومهم ومصالحتهم، فقالوا: سِرْ نَسِرْ معك، فقال: لا والله لا اطلعتْ في وجهي ذبيانيةٌ قتلتُ أباها أو أخاها أو زوجها أو ولدها؛ ولكن الحقوا بقومكم ودعوني. فلحقوا بقومهم وصالحوهم. وكان قيس بن زهير يدور في الفيافي ويتقمّمُ العشب ولا يقرب حيّاً من أحياء العرب لأنَّ العرب كانت تعظم أمره وفتكه وتطيَّرُ بالنظر إليه. فبينا هو في ليلة قرَّة في بعض الفلوات إذ نظر إلى صائد قد أورى ناراً فقصده يستطعمه وكان قد مكث دهراً لم يطعم غير العشب، فلمَّا همّ بذلك أنِفَ وقال: إنَّ بطناً يحملني على هذه الخطّة لبطن سوء، والله لا أدخله شيئاً حتَّى أموت ولم يطعم شيئاً حتَّى مات، فقال فيه بعض قومه:
إنَّ قيساً كان ميتته ... كرماً والحيُّ منطلِقُ
شام ناراً باللّوى اقتدحتْ ... وشجاع البطنِ يختفِقُ
في دريسٍ ليس يستُره ... رُبَّ حُرٍّ ثوبه خَلِقُ
أعرابي يمدح رجلاً:
فتى لا تراه الدَّهر إلاَّ مشمِّرا ... ليدرك مجداً أو ليرغم لوّما
تقسّمت الأموالُ عن طيب ذكره ... وإن كان يُبكيها إذا ما تبسّما
آخر:
لعمرك ما أتلفتُ مالاً كسبتُه ... إذا كنتُ معتاضاً بإتلافه نبلا
ولا قيل لي والحمد لله غادرٌ ... ولا استحسنَتْ نفسي على صاحب بُخلا
ولا نزلتْ بي للزمان ملمَّةٌ ... فأحذر منها حين تنزل بي ذلاّ
صبرت لريب الدَّهر يحدث دائباً ... فلما رأى صبري لإحداثه مَلاَّ
أعرابي:
إذا متّ فابْكيني بثنتين لا يُقل ... كذبتِ وشرّ الباكيات كذوبُها
بعفّة نفس حين يُذكَر مطمعٌ ... وعزَّتها إن كان أمرٌ يريبُها
فإن قلتِ سمحٌ بالندى لم تكذَّبي ... فأمَّا تُقَى نفسي فربّي حسيبُها
أعرابي من بني عامر:
غداة لقينا من عبادة أسرةً ... مجرّبةَ الأيام ذات عُرامِ
إذا وصلوا أيمانهم بسيوفهم ... فليسوا على أحسابهم بلئامِ
آخر:
سنبكي بالرماح إذا التقينا ... على آبائنا وعلى بَنينا
وضرب تُرعَدُ الأحشاءُ منه ... وطعن يقلب الألوان جونا
آخر:
وفتيان صدقٍ لا ضغائن بينهم ... سريت بهم حتَّى تلين السوالفُ
غيوث إذا راحوا ليوث إذا غدوا ... صروف إذا أعيا الرجالَ المصارفُ
أعرابي:
وذات حليل أيَّمتْها رماحُنا ... قديماً وأخرى قد جعلنا لها بعلا
وما العدل أن يروى القنا من دمائنا ... وإنْ تَعرضوا من دون أوتارنا العقْلا
أعرابي ومدح قوماً:
تخالُهم للحلْم صُمّاً عن الخنا ... وخرساً عن الفحشاء عند التَّهاجرِ
ومرضى إذا لوقوا حياءً وعفّة ... وعند الحفاظ كاللّيوثِ الخوادرِ
كأنَّ بهم وصْماً يخافون عارَه ... وما وصْمُهم إلاَّ اتّقاءُ المعايرِ
قد ذكرنا هذا المعنى وشيئاً من نظائره فيما تقدم وبقيت له نظائر نذكر منها هنا شيئاً، فممّا نذكره قديماً قول الشاعر وهو مروان:
لعمرٍ على حيَّى نزار كليهما ... أيادي كريم منَّ فيها وأنْعَما
فتى لم يدَعْ باباً من الخير مغلقاً ... ولم يغشَ ممَّا حرّم الله مَحْرما
وتلقاه من فرط الحياء كأنَّه ... سقيم وإنْ أمسى صحيحاً مسلّما
وأتى به آخر فقال:
نَزْرُ الكلام من الحياء تخالُه ... ضَمِناً وليس بجسمه سُقْمُ
مُتهلِّلٌ بِنَعم بلا متباعِد ... سيّان منه الوفْرُ والعُدْمُ
شاعر من الخزرج:
وطاعنّا وللنبْلِ ... هرير يصدَعُ القلبا
فلما طاعنَ القومُ ... تركنا فيهم الضَّربا
يقول: طاعنّا بالرماح وأعداؤنا يرمون بالنبل، فلما دنا بعضُنا من بعض وأفضى أعداؤنا إلى الطعن بالرماح جالدناهم بالسيوف. وهذا المعنى من المعاني الجياد، فإن كان قائل هذا الشعر اخترعه وكان الأصلَ فيه، زاد زهير بقوله:
يطعنُهم ما ارتمَوا حتَّى إذا اطّعنوا ... ضاربَ حتَّى إذا ما ضاربوا اعتنقا
لأن زهيراً أتى بالمعنى الَّذي قدَّمنا ذكره، وهو بيتان، في بيت واحد، وله أيضاً فيه زيادة جيدة لأنه ذكر أنَّه يطعنهم وهم يرتمون ثمَّ يضربهم وهم يتطاعنون فإذا اضطربوا بالسيوف عانق، ولم يُتمِّم أحد هذا المعنى بمثل هذا، إلاَّ أنّ زهيراً أخذه بغير شكّ من المهلهل بن ربيعة التغلبي في قوله:
أنبضوا مَعجِسَ القِسيّ وأبرقْ ... نا كما يوعِدُ الفحولُ الفُحولا
وبيت المهلهل، وإن كان سابقاً للمعنى، فهو دون بيت زهير ودون بيت الأنصاريّ لأنه ذكر أنهم أنبضوا القسيّ وأبرقنا، فيجوز أن يكون أنبضوا قسيَّهم من بُعد وأبرقنا من بُعد، ولم يدنُ بعضهم من بعضٍ، وهذا غير مستوفٍ للمعنى استيفاءً جيداً. وبيت الأنصاريّ، وإن كان دون بيت زهير أيضاً، فهو أجود من بيت المهلهل لما قدّمنا ذكره من العيب الظاهر فيه. وإلى هذا المعنى نظر البحتري في قوله:
فمن كان منهم ساكتاً كنتَ ناطقاً ... ومن كان منهم قائلاً كنتَ فاعلا
ولهذا المعنى نظائر تأتي فيما يستأنف إن شاء الله.
قال عتيبة بن مرداس:
رأيتُ المعلّى ليس يُشبه عمَّه ... ولا خالَه ولا أباه المقدَّما
أولئك ما زالوا عرانينَ خندف ... إذا كان يوماً كاسفَ الشَّمس مُظلِما
وهذا فما نلقاه إلاَّ مصمِّماً ... على مال ذي القُربى وإن كان مُعدِما
فتى تكثر الأموال تحتَ عِجانه ... إذا أكثر النَّاس النَّدى والتكرُّما
تراه كماء البحر يدفع مِلحه ... لورّاده عنه وإن كان مُفعَما
من هنا أخذ البحتريّ قوله: