قيس بن الخطيم:
إذا جاوز الاثنينِ سِرٌّ فإنَّهُ ... بِنَثٍّ وتكثيرِ الحديث قمينُ
سَلى مَن جَليسي في الندِيِّ ومألَفي ... ومَن هو لي عند الصَّفاءِ خَدِينُ
وإنْ ضيَّع الإخوانُ سرّاً فإنَّني ... كتومٌ لأسرارِ العشيرِ أمينُ
أَعِزّ على الباغي ويغلظُ جانبي ... وذو القَصد أحْلَوْلِي له وأَلينُ
سُوَيْد بن صامت الأنصاري:
وقد علمتْ سراةُ الأوسِ أنِّي ... إذا ما الحربُ تَحتدِمُ احْتِداما
أَحوطُ دِمارَهم وأَعفُّ عنهم ... إذا لم يشْدُدِ الورِعُ الحِزامَا
وأغشَى هامةَ البطل المُذَكِّي ... جُرازاً صارماً عَصْباً حُساما
إذا ما البِيض يومَ الرَّوع أبدَتْ ... محاسنَها وأبرزَتِ الخِداما
أتَتْني مالك بليوثِ غابٍ ... ضراغمَ لا يرون القتلَ ذَامَا
معاقِلُهم صوارمٌ مرهفاتٌ ... يُساقون الكماةَ بها السِّمامَا
ومردية صبرتُ النَّفسَ منها ... على مكروهها كيْ لا أُلامَا
لأكشفَ كُربةً وأُفيدَ غنماً ... وأمنعَ ضيمَ جاري أن يُضامَا
قيس بن الخطيم:
تبدَّتْ لنا كالشمسِ تحتَ غمامةٍ ... بدَا حاجبٌ منها وضنَّت بحاجبِ
ولم أرَها إلاَّ ثلاثاً على مِنًى ... وعهدي بها عذراءُ ذاتُ ذوائبِ
فتلك التي كادتْ ونحنُ على مِنًى ... تحُلُّ بنا لولا نجاءُ الركائبِ
قال الحاتميّ: أخذ هذا المعنى أخذاً خفيّاً من امرئ القيس في قوله: " قيد الأوابد " وهو قوله: " نجاء الركائبِ ".
ومثلكِ قد أصبَيتُ ليست بكَنَّة ... ولا جارةٍ ولا حليلةِ صاحبِ
أرِبتُ بدفع الحربِ حتَّى رأيتُها ... على الدَّفع لا تزدادُ غيرَ تقاربِ
ولمَّا رأيتُ الحربَ شَبَّ أُوارُها ... لبِستُ مع البردَين ثوبَ المحاربِ
وكنت امرأ لا أبعثُ الحربَ ظالماً ... فلمَّا أبَوْا أشعلتُها كلَّ جانبِ
إذا ما مرَرْنا كانَ أسوَأ فَرِّنا ... صدودَ الخدود وازْوِرارَ المناكبِ
صدودَ الخدودِ والقنا متشاجِرٌ ... ولا تبرحُ الأقدامُ عند التضاربِ
يُعَرَّين بِيضاً حين نلقَى عدوَّنا ... ويُغْمَدنَ حُمراً ناحِلاتِ المضاربِ
فإن غبتُ لم أُغفَل وإن كنت شاهداً ... تجدني شديداً في الكريهة جانبي
قوله: " وإن غبت لم أغفل " ضد قول جرير:
ويُقضَى الأمرُ حين تغيب تَيم ... ولا يُستأذَنون وهم شهودُ
أخذ قوله بشار: " تبدت لنا كالشَّمس " البيت، في قوله:
قامت تَصَدَّى إذ رأتْني وحدي ... كالشَّمس بين الزِّبْرِجِ المُنقدِّ
ضنَّتْ بخدٍّ وجلَتْ عن خدّ ... ثمَّ انثنَتْ كالنفَس المرتَدِّ
وما قصَّر بشار في هذا المعنى، بل جوَّده وزاد.
وقوله: " فتلك التي كادت ونحن على منًى " البيت، يريد: أنا نظرنا إليها ونحن سائرون، فلولا أن الإبل، لما شُغلنا بالنظر إليها، سارت ونحن لا نعلم لكُنَّا قد نزلنا. وفيه قول آخر، وهو أنَّا كنا محرمين فكدنا، بنظرنا إليها إن نحلَّ فيفسد إحرامنا. وشبيه بهذا قول الشاعر:
وتستوقفُ الركْبَ العِجَال بطَرفها ... فما أحدٌ يمضي من القوم أو تمضِي
وقال آخر:
أغرَتْ بموضع أخمصَيها طرفَها ... تحثو التراب بنظرة المسترعَفِ
أخذَت بألحاظِ الركاب فلَعْلَعَتْ ... متقدّماً منهم على متخلّفِ
وقوله: " ومثلك قد أصبيتُ " البيت: معنى جيد في الحفاظ، وقد أخذه بعض المحدثين فقال:
قالت وقلتُ تحرَّجي وصِلِي ... حبلَ امرئٍ بوصالكم صبِّ
واصِلْ إذن بَعلي فقلتُ لها ... الغدرُ شيء ليس من شَعْبي
ثِنتان لا أصْبُو لوصلِهما ... عِرسُ الخليل وجارةُ الجنبِ
أمَّا الصَّديق فلستُ خائنَه ... والجارُ أوصاني به ربِّي
هذا جيد، إلاَّ أنَّ الأول أجود، لأنه جمع ما احتاج إليه من الكنة والجارة وامرأة الصاحب في بيت واحد، وهذا أتى بالجارة وامرأة الصاحب في أبيات ولم يذكر الكنة، وهذا المعنى كثير في أشعارهم قديماً ومحدثاً.
وقوله: " لما رأيت الحرب شبَّ أوارُها " البيت، أراد بالبردَين الشجاعة والشباب، ويجوز أن يكون أراد بهما ثوبيه. فأمَّا قوله: " ثوب المحارب " فهو الدرع لا محالة، ثمَّ قال في ذكر الفرار ما لم يقله أحد، جودة وحسن لفظ وصحة معنى. وقوله في ذكر السيوف: " ناحلات المضارب " شبيه بقول النابغة:
ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهم ... بهنَّ فلولٌ من قراعِ الكتائبِ
قوله: " إذا ما فرَرْنا " والبيت الَّذي بعده مأخوذ من قول الأعشى في يوم ذي قار:
ما في الخدودِ صدودٌ عن وجوههم ... ولا عن الطَّعن في الَّلبَّات منحرَفُ
وقال عبد الله بن رواحة في جواب قيس بن الخطيم عن شعره هذا الشعر:
إذا غُيِّرت أحسابُ قوم وجدتَنا ... إلى مشْعَرٍ فيها كرامُ الضرائبِ
قوله: " إذا غيّرت " البيت، أي أن يشِحُّوا بعد الجود لما صاروا إليه من الشدَّة والجهد في سنة قد تقدم ذكرها في الشعر.
نُدافعُ عن أحسابِنا بتلادِنا ... لمُفْتَقِر أو سائل الحقِّ واجبِ
وأعمَى هدَتْه للسَّبيل حُلُومُنا ... وخصمٍ أقَمنا بعدَ تَلْجيج شاغبِ
ومُعتركٍ ضَنكٍ ترى القومَ وسطَه ... مشَينا له مشيَ الجِمالِ المَصاعبِ
أخذ قوله: " مشينا له " من النابغة في قوله:
إذا نزلوا عنهنَّ للضَّرب أَرْقَلوا ... إلى الموتِ إرقالَ الجِمال المَصاعبِ
وقال رفاعة بن خالد الواقفي من الأنصار:
لا مهاذير في النَّديِّ ولا ينْ ... فكُّ فيه لهم ندى وسماحُ
منهم الذائدُ الكتيبة بالسَّيْ ... فِ كما يكشفُ السَّحابَ الرياحُ
فيهم للمُلايِنِينَ أناةٌ ... وطِماحٌ إذا يُراد الطِّماحُ
ومداريكُ للذُّحول مَبا ... ذيلُ إذا قلَّ في السِّنين اللّقَاحُ
الرواية: القلاح.
وقال قيس بن رفاعة:
إن نُصبحِ اليومَ قد خفَّتْ مجالسُنا ... والموتُ أمرٌ لهذا النَّاس مكتوبُ
فقد غَنِينا وفينا سامِرٌ غَرِدٌ ... وصارخٌ كأَتِيِّ السَّيلِ مرهوبُ
وقال نَهيك بن أُساف:
لعمري لقد أكرمتُ ندبة وابنَها ... ولكن عِرقَ السوءِ في المرءِ غالبُه
فلسنا وإن قلتِ السَّفاهةَ والخنا ... بأوَّل من يَثْروه يوماً أقاربُه
ولو قلتِ بالمعروف أنبأتِ أنَّنا ... إذا الكبشُ لاحتْ في الصَّباح كواكبُه
نطاعنُهُ حتَّى نُصرَّعَ حولَه ... ونمشي إلى أبطالِهِ فنضاربُه
وقال قيس بن رفاعة:
وخيلٍ بعضُها حربٌ لبعض ... بحرِّ طرادها أُصُلاً صَليتُ
وفتيانٍ أطاعوا اللهوَ عندي ... فآبوا حامدين وما خَزيتُ
ولم أَعْتِمْ حلال القوم هَمِّي ... أُعدِّدُ بالأصابع ما رُزيتُ
متى ما يأتِ يومي لا تجدْني ... بمالي حين أبذلُهُ شَقيتُ
ولا بموفِّرٍ شيئاً عليه ... من الحقّ الملطّ إذا اجْتُديتُ
وقال القتَّال الكلابي:
لقد ولدتْ عوفَ الطعان ومالكا ... وعمرو العُلى والحارث المتنَجّبَا
رجالٌ بأيديها دماءٌ ونائلٌ ... يكادُ على الأعداءِ أنْ يتَحلّبَا
ومن هذا أخذ البحتري قوله:
وصاعقة في كفّه ينكفي بها ... على أرؤس الأبطالِ خمس سحائبِ
يكاد النَّدَى منها يفيض على العِدى ... مع السَّيف في ثِنيَيْ قنا وقواضبِ
والبحتري وإن كان أخذ المعنى وأتى به في بيتين، فقد جوَّد وأحسن، وفاقَ على وِفاق الأول بما أبدع في المعنى الأول وزاد، لأنه صيّر السيف صاعقةً، فيجوز أن يكون أراد حديدة من صاعقة، على ما يحكي بعض النَّاس في الصواعق، ويجوز أن يكون شبَّه السيف بالصاعقة لحدَّته، وأنَّه يتلف ما مرَّ به، ثمَّ ذكر أنَّه ينكفي به على أرؤس الأبطال خمس سحائب، يعني أصابع الممدوح. ومن النادر في هذا البيت أنَّه صيَّر السحائب مع الصاعقة، إذ كانا من جنس واحد. وتقول الفلاسفة: إنَّ الصواعق تكون مع السحائب الصَّيفيَّة دون الأمطار المطبقة في الشتاء. وممَّا يقوي هذا القول قول لبيد يرثي أخاه أَرْبَد وقد أحرقته الصاعقة:
أخشَى على أربدَ الحُتوفَ ولا ... أرهبُ نَوْءَ السِّماكِ والأسدِ
وهذان الكوكبان من منازل القمر، مطلعهما في آخر الرَّبيع وأول الصيف. وهذا هو الحذق في الشعر وأخذ معانيه، ومَن أخذ المعنى هذا الأخذ فهو أحقُّ به ممَّن ابتدعه. وقد شرحنا أمر المعاني شرحاً شافياً في رسالتنا التي ذكرنا فيها شعر أبي نواس، فلذلك لم نشرح ههنا إلاَّ اليسير. وبعد وقبل فقد سبق البحتري جميع الشعراء في هذا المعنى حُسناً وملاحة وصحة وفصاحة.
وكان القتَّال الكلابي أحد فُتَّاك العرب، وهو ممَّن كان يطرده قومه لكثرة جناياته، فروي أنَّه سلك في بعض الأودية، وكان مسلكاً ضيّقاً، فبينا هو فيه إذا هو بأسد مفترش ذراعيه على الطريق، ولم يعلم حتَّى هجم عليه، فخشي أن يرجع فيبادره، فلم يجد مقدماً إلاَّ بقتله. فانتضى سيفه وحمل على الأسد فقتله وقال:
أتتكَ المنايا من بلادٍ بعيدة ... بمنخرِق السّربال عَبْلِ المناكبِ
أخي العرف والإنكار يعلوكَ وقعةً ... بأبيضَ سقَّاطٍ وراءَ الضَّرائبِ
هذا البيت في صفة السيف نهاية في الجودة. ولولا كثرة ما ذكر به السيف واتّساعه في أيدي النَّاس لأثبتنا منه ههنا بقطعة صالحة إلاَّ أنَّه مشهور كثير فلذلك تركنا ذكره.
وللقتَّال أيضاً يهجو قوماً ويذكر أنَّ لهم عدداً وسلاحاً ولكنَّهم لا يثبتون في الحرب لمن قاتلهم بل ينهزمون ولا يثبتون:
أفي كلّ يوم لا تزال كتيبةٌ ... عقيلية يَهفُو عليكم عقابُها
وأنتم عديد في حديد وشَفْرة ... وغابِ رماح يكْسِفُ الشَّمس غابُها
فما الشَّرُّ كلّ الشرّ لا خيرَ بعده ... على النَّاس إلاَّ أن تَذِلَّ رِقابُها
وقال أيضاً:
ويَبيتُ يَسْتَحيي الأمورَ وبطنُه ... طَيّانُ طَيَّ البرد يحسبُ جائعا
من غير ما عُدْمٍ ولكن شيمة ... إنَّ الكرامَ هم الكرامُ طبائعا
وقال حُميد بن ثور الهلالي ووجّه صاحبين له إلى عشيقته فأوصاهما وصيَّة ما فوقها زيادة، وعرَّفهما من التلطّف والحيَل أموراً ما أتى أحد بمثلها ولا قارب وهو: