حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعُثْمَانِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُذَكِّرُ، ثنا -[375]- الْعَبَّاسُ بْنُ يُوسُفَ الشِّكْلِيُّ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: سَمِعْتُ ذَا النُّونِ، يَقُولُ: " خَرَجْتُ حَاجًّا إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ فَبَيْنَا أَنَا بِالطَّوَافِ إِذَا بِشَخْصٍ مُتَعَلِّقٍ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَإِذَا هُوَ يَبْكِي وَهُوَ يَقُولُ فِي بُكَائِهِ: كَتَمْتُ بَلَائِي مِنْ غَيْرِكَ وَبُحْتُ بِسِرِّي إِلَيْكَ، وَاشْتَغَلْتُ بِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ، عَجِبْتُ لِمَنْ عَرَفَكَ كَيْفَ يَسْلُو عَنْكَ، وَلِمَنْ ذَاقَ حُبَّكَ كَيْفَ يَصْبِرُ عَنْكَ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
[البحر الكامل]
ذَوَّقْتَنِي طِيبَ الْوِصَالِ فَزِدْتَنِي ... شَوْقًا إِلَيْكَ مُخَامِرَ الْحَسَرَاتِ
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: أَمْهَلَكِ فَمَا ارْعَوَيْتِ، وَسَتَرَ عَلَيْكِ فَمَا اسْتَحَيَيْتِ، وَسَلَبَكِ حَلَاوَةَ الْمُنَاجَاةِ فَمَا بَالَيْتِ، ثُمَّ قَالَ: عَزِيزِي مَا لِي إِذَا قُمْتُ بَيْنَ يَدَيْكَ أَلْقَيْتَ عَلَيَّ النُّعَاسَ، وَمَنَعْتَنِي حَلَاوَةَ قُرَّةِ عَيْنِي لَهُ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
رَوَّعْتَ قَلْبِي بِالْفِرَاقِ فَلَمْ أَجِدْ ... شَيْئًا أَمَرَّ مِنَ الْفِرَاقِ وَأَوْجَعَا
حَسْبُ الْفِرَاقِ بِأَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَنَا ... وَأَطَالَ مَا قَدْ كُنْتُ مِنْهُ مُوَدَّعَا
قَالَ: فَلَمْ أَتَمَالَكْ أَنْ أَتَيْتُ الْكَعْبَةَ مُسْتَخْفِيًا، فَلَمَّا أَحَسَّ تَحَلَّلَ بِخِمَارٍ كَانَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا ذَا النُّونِ غُضَّ بَصَرَكَ مِنْ مَوَاقِعِ النَّظَرِ فَإِنِّي حَرَامٌ، فَعَلِمْتُ أَنَّهَا امْرَأَةٌ، فَقُلْتُ: يَا أَمَةَ اللَّهِ مِمَّ يَحْوِي الْهُمُومَ قَلْبُ الْمُحِبِّ؟ فَقَالَتْ: إِذَا كَانَتِ لِلتَّذْكَارِ مُحَاوَرَةً، وَلِلشَّوْقِ مُحَاضِرَةً، يَا ذَا النُّونِ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الشَّوْقَ يُورِثُ السَّقَامَ، وَتَجْدِيدَ التَّذْكَارِ يُورِثُ الْأَحْزَانَ، ثُمَّ أَنْشَأَتْ تَقُولُ:
[البحر المديد]
لَمْ أَذُقْ طَعْمَ وَصْلِكَ حَتَّى ... زَالَ عَنِّي مَحَبَّتِي لِلْأَنَامِ
ثُمَّ أَنْشَأَتْ تَقُولُ:
نِعْمَ الْمُحِبُّ إِذَا تَزَايَدَ وَصْلُهُ ... وَعَلَتْ مَحَبَّتُهُ بِعُقْبِ وِصَالِ
فَقَالَتْ: أَوْجَعْتَنِي، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يُبْلَغُ إِلَيْهِ إِلَّا بِتَرْكِ مَنْ دُونَهُ "