كلمتهم المتفرقة بشريعته، لم يظهر منهم رجل عظيم آخر ليخرجهم من دائرة تلك الشريعة.

وعاد القرآن، الذي لاءم مشاعر الأمة العربية واحتياجاتها أيام محمد ملاءمةً تامة، غير ما كان عليه بعد بضعة قرون، ولو كان القرآن دستوراً دينياً فقط ما كان هنالك كبير محذور، ولكن القرآن إذ كان دستوراً سياسياً ومدنياً أيضاً، وكان بطبيعته ثابتاً، بدت عدم المطابقة بينه وبين الاحتياجات الدائمة التحول والأمم ونُظُمِها الثابتة، وحالت هذه النظم دون تقدم تلك الأمم التي قُيِّدت بقيود الماضي.

ويبدُو أكثر النظم المشتقة من القرآن على شيء من المرونة مع ثباتها، وإنما الذي هو ثابتٌ غيرُ مرنٍ منها هو النظام الإسلامي السياسي القائل بجمع جميع السلطات في يد سيدٍ عالٍ مطلقٍ معدودٍ وكيلَ لله في الأرض.

وإذا نظرت إلى العرب أيام سلطانهم، أو إلى مختلف الأمم التي داومت بعدهم على نشر القرآن، رأيت نظمها السياسية متجليةً في شكل مَلَكِيّ حربي وديني مطلق، وإذا كانت هذه النظم قادرةً على إقامة الدول الكبيرة بسرعة لم تَكفُل بقاءَها إلا نادراً كما دلَّ على ذلك تاريخ العرب والمغول والترك الذين لم تتقدم دولهم العظيمة، وهي التي كان عليها أن تكافحَ المصاعب الداخلية والخارجية المتنوعة، إلا عندما كان على رأسها رجال عظماء.

من أجل ذلك ترى الدول الحربية الواسعة التي تقوم بسرعة تَسْقُط بسرعة غالباً، ويَدبُّ الانحطاط في مفاصلها عندما يَخلُفُ الرجلَ العبقريَّ الذي قبض على زمامها رجل أو اثنان من ذوي العقول المتوسطة، شأن الأندلس والمشرق، فبعد أن كان عصر هارون الرشيد وابنه المأمون أنضر ما رأته دولة الخلافة في بغداد جاء دور الانحطاط حالاً.

وكان عهد آخر الأمويين في إسبانية أقوى ما وصل إليه العرب فيها بفضل وزيره الأكبر المنصور، فلما مات هذا الوزير في أوائل القرن الحادي عشر من الميلاد سَقَطَ مُلكهم معه، وأصبح البربر سادة البلاد، وصار كل والٍ ينادي بنفسه ملكاً، ثم أَفَلَ نجم العرب السياسي في إسبانية بفعل هذا الانقسام أكثرَ مما كان بفعل أعدائهم في الخارج، وبهذا أثبت لنا العرب أن النظم التي تبلغ الأمة بها أعلى درجات العظمة يمكن أن تسقط بها في هُوَّة الانحطاط، وذلك كما قلنا آنفاً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015