وعشيرته. فقال الحباب بن المنذر: يا معشر الأنصار املكوا أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر فإن أبوا عليكم فأجلوهم من هذه البلاد فأنتم أحق بهذا الأمر منهم فإنه بأسيافكم دان الناس بهذا الدين أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب أنا أبو شبل في عريسة الأسد، والله إن شئتم لنعيدنها جذعة. فقال عمر: إذن يقتلك الله. قال: بل إياك يقتل" (?).

وهذه القصة لا تثبت من وجه صحيح بل هي باطلة، وفيها ما فيها من الدس والطعن، إذ الثابت عن الحباب بن المنذر - رضي الله عنه - أنه قال: منا أمير ومنكم أمير (?)،والمهم هنا: لماذا اعترض الحباب –وسكت علي رضي الله عنهما، وأنتم تقولون هو وصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وهذا النص –المزعوم-يقطع أن عمر - رضي الله عنه - يرد ويناقش بل ويسب؟! - حاشاه – فأين زعمكم أنّ عمر - رضي الله عنه - الجم الصحابة كلهم ومنع الوصية؟

ثم ثبت بالسند الصحيح عندنا أن بعض الأنصار أرادوا سعد بن عبادة للخلافة في حادثة سقيفة بني ساعدة (?)،فلماذا تكلم كل هؤلاء وترك مثله علي رضي الله عنه، ولماذا لم يدلِ برأيه مثل بقية الصحابة؟ فإن قيل ترك ذلك لئلا تقع فتنة بين الصحابة؟

أجيب: ألستم من نقل قول الحباب بن المنذر –المزعوم –آنفاً: (فإن أبوا عليكم فأجلوهم من هذه البلاد)، أي: اطردوهم من المدينة، (فأنتم أحق بهذا الأمر منهم)؛لأنه يرى قومه أحق بالخلافة! فأين وصيتكم المزعومة؟، (فإنه بأسيافكم دان الناس بهذا الدين)، وهذه أوضح صورة على الدس في هذه القصة (?)،فكيف ينسبه الصحابي الجليل الحباب بن المنذر إلى نفسه وهو من البدريين! ثم يقول: (أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب أنا أبو شبل في عريسة الأسد، والله إن شئتم لنعيدنها جذعة. فقال عمر: إذن يقتلك الله. قال-احباب-: بل إياك يقتل)! وهل بعد هذه الفتنة فتنة؟ فإذا وقع المحذور بزعمكم كانت الفرصة سانحة للمطالبة بالحق الشرعي؟

والأهم من هذا كله: لو كان عمر - رضي الله عنه - بهذه الصورة المشوهة التي ترسمونها له من حب للدنيا وطمع في الخلافة –حاشاه-فلماذا رفض عمر الخلافة وقد دعاه إليها أبو بكر؟ أليس هذا زهداً منه ومعرفة بحق أبي بكر ومنزلته؟ وهو أهل لها وحق له ذلك.

3 - إنّ عمر - رضي الله عنه - كان بعيد النظر، ثاقب البصيرة، سديد الرأي، وقد رأى أن الأولى ترك كتابة الكتاب -بعد أن تقرر عنده أن الأمر به ليس على الوجوب- وذلك لمصلحة شرعية راجحة للعلماء في توجيهها أقوال، فقيل: شفقته على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يلحقه من كتابة الكتاب مع شدة المرض، ويشهد لهذا قوله: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع) فكره أن يتكلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يشق ويثقل عليه (?) مع استحضاره قوله تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} الأنعام /38، {تبياناً لكل شيء}.النحل/89.

وقيل: إنه خشي تطرق المنافقين، ومن في قلبه مرض، لما كتب في ذلك الكتاب في الخلوة، وأن يتقولوا في ذلك الأقاويل، نصّ على ذلك القاضي عياض وغيره من أهل العلم (?).

وقيل: إنه خشي أن يكتب أموراً ربما عجزوا عنها فاستحقوا العقوبة لكونها منصوصة، ورأى أن الأرفق بالأمة في تلك الأمور سعة الاجتهاد، لما فيه من الأجر والتوسعة على الأمة.

وقد يكون عمر - رضي الله عنه - لاحظ هذه الأمور كلها، أو كان لاجتهاده وجوه أخرى لم يطلع عليها العلماء، كما خفيت قبل ذلك على من كان خالفه من الصحابة، ووافقه عليها الرسول - رضي الله عنه - بتركه كتابة الكتاب، ولهذا عد العلماء هذه الحادثة من دلائل فقهه ودقة نظره.

قال النووي:"وأما كلام عمر - رضي الله عنه - فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث، على أنه من دلائل فقه عمر، وفضائله، ودقيق نظره" (?).

الوجه الرابع: أن عمر - رضي الله عنه - كان مجتهداً في موقفه من كتابة الكتاب، والمجتهد في الدين معذور على كل حال، بل مأجور لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم اخطأ فله أجر " (?)، فكيف وقد كان اجتهاد عمر بحضور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يؤثمه، ولم يذمه به، بل وافقه على ما أراد من ترك كتابة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015