وخرج فتيان في صيد لهم، فأثاروا ضبعاً فنفرت ومرت، واتبعوها فلجأت إلى خباء لهم، فخرج لهم بالسيف منصلتا، فقالوا له: يا أبا عباد الله، لم تمنعنا من صيدنا؟ فقال: إنها استجارت بي، فخلوا بيني وبينها، فخلوا بينه وبينها، فنظر إليها مهزولة مضرورة، فجعل يسقيها اللبن صباحاً ومساء، حتى سمنت وحسن حالها، فبينا هو ذات يوم متجرد، إذ عدت عليه فشقت بطنه وشربت دمه.
وحكى الفنجديهي بسنده إلى أبي محمد الحسن بن إسماعيل قال: كنت قاعداً أنسخ وبين يدي قدح فيه ماء، وطبق فيه كعك وزبيب ولوز، فجاءت فأرة، فأخذت لوزة ومضت، ثم عادت فأخذت أخرى، ففرغت الماء الذي في القدح، فعادت الفأرة فكببت القدح عليها، واشتغلت بشغلي بساعة، فإذا فأرة أخرى قد جاءت فدارت حول القدح، فشقشقت وبقيت ساعة على ذلك، والفأرة الأخرى تشقشق من داخل القدح، فلم تجد حيلة في خلاصها فمضت وأتت بدينار فوضعته ووقفت، ولم أرفع القداح عن الفأرة فمضت وأتت بدينار آخر ووقفت، فلم أرفع القدح ففعلت ذلك إلى أن أتت بسبعة دنانير، ووقفت ساعة فلم أرفع القدح عن الفأرة فمضت، واتت بقرطاس فارغ فعلمت أنها لم يبق عندها شيء، فخليت عن الفأرة.
ودخل أبو يوسف القاضي على الرشيد ومعه الكسائي، وهما في مذاكرة وممازحة، فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا الكوفي قد غلب عليك، فقال: يا أبا يوسف، إنه ليأتيني بأشياء، يشتمل عليها قلبي، ويأخذ بمجامعه، فقال الكسائي: يا أبا يوسف هل لك في مسألة؟ فقال: في نحو أو فقه؟ فقال: بل في فقه، فضحك الرشيد، وقال: تلقي على أبي يوسف الفقه؟ قال: نعم، قال: يا أبا يوسف، ما تقول في رجل قال لزوجه: أنت طالق إن دخلت الدار؟ قال: إذا دخلت طلقت، قال: أخطأت يا أبا يوسف، فضحك الرشيد، ثم قال: كيف الصواب؟ فقال: إذا قال: أن وجب الفعل ووقع الطلاق، دخلت الدار بعد أو لم تدخل؟ وإن قال: إن بالكسر لم يجب ولم يقع الطلاق، حتى تدخل الدار.
وكان لرجل عند الحجاج حاجة، فوصف له بالجهل والحمق، فأراد أن يختبره، فقال له: أعصامي أنت أم عظامي؟ فقال له الرجل: عصامي عظامي، فظن الحجاج أنه يريد: أفتخر بنفسي بفضلي، وبآبائي لشرفهم، فقال: هذا من أفضل الناس وقضى حاجته، ثم جربه بعد ذلك، فوجده أجهل الناس وأحمقهم فقال له: لم أصدقني، وإلا قتلتك، كيف أجبتني لما سألتك بعصامي وعظامي؟ فقال له الرجل: لم أعلم معناهما، فخشيت أن أقول أحدهما، فأخطئ، فقلت في نفسي: أقول بهما معاً، فإن ضرني أحدهما، نفعني الآخر، فقال الحجاج: المنابر تصير الغبي خطيباً، فذهبت مثلاً. والعصامي هو الذي يسود بنفسه، والعظامي هو الذي يفتخر بآبائه الذين صاروا عظاماً.
ويحكى أن حامد بن العباس سأل علي بن عيسى في ديوان الوزارة عن دواء الثمل، فأعرض عن كلامه، فقال: ما لنا وهذه المسألة، فخجل حامد منه، ثم التفت إلى القاضي أبي عمرو، فسأله عن ذلك، فتنحنح القاضي لإضلاح صوت، ثم قال: قال سبحانه: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) ، وقال الرسول عليه السلام: "استعينوا في الصناعات بأهلها" والأعشى هو المشهور بالخمر في الجاهلية، وقد قال:
وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها
ثم تلاه أبو نواس في الإسلام فقال:
دع عنك لومي؛ فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء
فأسفر وجه حامد، وقال لعلي بن عيسى: ما ضرك يا بارد، أن تجيب ببعض ما أجاب به قاضي القضاة، وقد استظهر في المسألة بقول الله أولاً، ثم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ثانياً، وبين الفتيا وأدى المعنى، فكان خجل علي بن عيسى من حامد بهذا الكلام أكثر من خجل حامد منه، لما ابتدأه بالمسألة.