فارتاح وطرب، وأمر لي بعشرة آلاف درهم.
وقال أبو العباس: حدثت أن أبا العباس عمر الوادي قال: أقبلت من مكة أريد المدينة، فسمعت غناء من القرى لم أر مثله، فقلت: والله لأتوصلن إليه، فإذا هو عبد أسود، فقلت: أعد علي ما سمعت، فقال: والله، لو كان عندي قرى أقريكه لفعلت، ولكني أجعله قراك، فإني، والله، ربما غنيت هذا الصوت وأنا جائع فأشبع، وربما غنيته وأنا كسلان فأنشط، وربما غنيته وأنا عطشان فأروى، ثم اندفع يغني:
وكنت إذا ما زرت سعدى بأرضها ... أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
من الخفرات البيض، ود جليسها ... إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها
قال عمر: فحفظته عنه، ثم تغنيت به على الحالات التي وصف، فهو كما ذكر.
وحكى الشيباني قال: كان بالعراق قينة، وكان أبو نواس يختلف إليها، فكانت تظهر له أنها لا تحب غيره، وكان كلما جاءها وجد عندها فتى يجلس إليها ويتحدث معها، فقال فيها:
ومظهرة لخلق الله وداً ... وتلقى بالتحية والسلام
أتيت فؤادها أشكو إليها ... فلم أخلص إليه من الزحام
فيا من ليس يكفيه خليل ... ولا خمسون ألفاً كل عام
أراك بقية من قوم موسى ... فهم لا يصبرون على طعام
وأبخل البخلاء حميد الأرقط الذي يقال له: هجاء الأضياف، وهو القائل في ضيف له:
تجهز كفاه، ويحدر حلقه ... إلى الزور، ما ضمت عليه الأنامل
أتانا، وما ساواه سحبان وائل ... بياناً وعلماً، ما الذي هو قائل
فما زال عنه اللقم، حتى كأنه ... من العي، لما أن تكلم باقل
وحكى ابن عدي قال: نزل على أبي حفصة الشاعر رجل باليمامة، فأخلى له المنزل، ثم هرب؛ مخافة أن يلزمه قراه تلك الليلة، فخرج الضيف، فاشترى ما احتاج إليه، ثم رجع وكتب إليه:
يا أيها الخارج من بيته ... وهارباً من شدة الخوف
ضيفك قد جاء بزاد له ... فارجع وكن ضيفاً على الضيف
وصلى الوليد بن عقبة بأهل الكوفة الصبح ثلاث ركعات، وهو سكران، ثم التفت إليهم وقال: وإن شئتم زدتكم، فشهدوا عليه وجلده علي بن أبي طالب بين يدي عثمان رضي الله عنهما، وهو أخو عثمان لأمه، فقال فيه الحطيئة، وكان نديمه:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر
نادى، وقد تمت صلاتهم ... ليزيدهم خيراً على خير
ليريدهم خيراً، ولو قبلوا ... لقرنت بين الشفع والوتر
كبحوا عنانك إذ جريت، ولو ... تركوا عنانك لم تكن تجري
وكان بعض الظرفاء ينادم رجلاً من الرؤساء، فكان يكسوه إذ سكر قميصاً، فإذا صحا نزعه عنه، فقال في ذلك:
كساني قميصاً مرتين، إذا انتشى ... وينزعه مني إذا كان صاحيا
فلي فرحة في سكره بقميصه ... وفي الصحو روعات تشيب النواصيا
فيا ليت حظي من سروري وترحتي ... بكسوته أن لا علي ولا ليا
وحدث أبو جعفر قال: بينما الأمين في قصر له، إذ مر بجارية سكرى، وعليها كساء خز، تسحب أذياله، فراودها عن نفسها، فقالت: يا أمير المؤمنين، أنا على ما ترى، ولكن إذا كان في غد إن شاء الله، فلما كان من الغد، سار إليها، فقال لها: الميعاد، فقالت: يا أمير المؤمنين، أما علمت أن كلام الليل يمحوه النهار، فضحك، وخرج من مجلسه وقال: من بالباب من الشعراء؟ فقيل له: مصعب والبرقاش وأبو نواس، فأمر فأدخلوا عليه، فلما جلسوا بين يديه قال: ليقل كل واحد منكم شعراً، يكون آخره: كلام الليل يمحوه النهار: فقال الرقاشي:
متى تصحو، وقلبك مستطار ... وقد منع القرار، فلا قرار
وقد تركتك صباً مستهاما ... فتاة، لا تزور ولا تزار
إذا استنجزت منها الوعد، قالت: ... كلام الليل يمحوه النهار
وقال مصعب:
أتعزلني، وقلبي مستطار ... كئيب، لا يقر به قرار
بحب مليحة صادت فؤادي ... بألحاظ، يخالطها احورار
ولما أن مددت يدي إليها ... لألمسها بدا منها نفار
ولما جئت مقتضياً، أجابت ... كلام الليل يمحوه النهار
وقال أبو نواس:
وليلى أقبلت في القصر سكرى ... ولكن زين السكر الوقار
وهز الريح أردافاً ثقالا ... وغصناً، فيه رمان صغار