433 - بِمَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ هُوَ ابْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِي الْأَرْضِ، وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا، وَيَقُولُونَ: إِذَا بَرَأَ الدَّبَرُ وَعَفَا الْأَثَرُ، وَانْسَلَخَ صَفَرٌ حَلَّتِ الْعُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرَ، فَقَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْحِلِّ؟ قَالَ: «الْحِلُّ كُلُّهُ» ، قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَقَالَ قَائِلُهُمْ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِفَسْخِ الْحَجِّ فِي عُمْرَةٍ لِيُرِيَهُمْ جَوَازَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلِيُوقِفَهُمْ عَلَى إِبَاحَتِهَا عَمَلًا وَقَوْلًا، بِخِلَافِ مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ مِنْ تَحْرِيمِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ تِسْعَةٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّهُ دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ بِلَا دَلِيلٍ، لِأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ -[377]-: إِنِّي إِنَّمَا أَمَرْتُكُمْ بِفَسْخِ الْحَجِّ بِعُمْرَةٍ لِأُرِيَكُمْ إِبَاحَتَهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَا يَجِدُونَ ذَلِكَ عَنْ صَاحِبٍ أَصْلًا، وَإِنَّمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ، فَأُخْبِرَ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالْفَسْخِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ هَذَا مَنْقُولًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ صَاحِبٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَالْقَائِلُ بِذَلِكَ قَافٍ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَقَائِلٌ بِمَا لَا يَعْلَمُ، وَهَذَا حَرَامٌ، وَلَقَدْ يُتَوَقَّعُ عَلَى قَائِلِ ذَلِكَ الدُّخُولُ فِي الْكَذِبِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الشِّرْكِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَخْبَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَبَرٍ لَمْ يُسْنَدْ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَالَهُ تَظَنِّيًا، فَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ، وَقَدْ أَخْبَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ مَنْ قَالَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ وَلَجَ النَّارَ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الظَّنُّ دَعْوَى بِلَا دَلِيلٍ، فَقَدْ سَقَطَ وَحَرُمَ الْقَوْلُ بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُخْبِرَ بِمَا شَغَبُوا بِهِ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِي الْأَرْضِ، وَهوَ أَعْلَمُ بِمَا وَصَفَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أُصُولِهِمْ فِي أَكْثَرِ فَتَاوِيهِمْ إِذْ يَتْرُكُونَ رِوَايَةَ الصَّاحِبِ لِرَأْيِهِ، وَيَقُولُونَ: هُوَ أَعْلَمُ بِمَعْنَى مَا رَوَى، وَإِنَّمَا نُورِدُ هَذَا حُجَّةً عَلَيْهِمْ مِنْ أُصُولِهِمُ الْهَامَّةِ لِفُرُوعِهِمْ، وَأَمَّا نَحْنُ فَلَا حُجَّةَ عِنْدَنَا فِي أَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا فِي إِجْمَاعٍ مُتَيَقَّنٍ رَاجِعٍ إِلَى التَّوْقِيفِ، فَإِذَا لَمْ يَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذَا الْأَمْرَ عِلَّةَ الْفَسْخِ، وَرَأَى الْفَسْخَ وَاجِبًا، فَمِنْ أَيْنَ لَهُمْ أَنْ يَتَزَيَدُوا عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ وَلَا رَوَوْهُ عَنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ فِي أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَا ذَكَرُوا مِنْ أَنْ يُرِيَهُمُ الْعُمْرَةَ جَائِزَةً فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، بِخِلَافِ مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ، لَكَانَ هَذَا مُحَالًا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اعْتَمَرَ بِهِمْ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ، كُلُّ عُمْرَةٍ مِنْهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَهُوَ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَأَوَّلُهَا عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ، الَّتِي صُدَّ عَنْهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ، ثُمَّ عُمْرَةُ الْقَضَاءِ مِنَ الْعَامِ الثَّانِي فِي ذِي الْقَعْدَةِ، ثُمَّ عُمْرَةُ الْجِعْرَانَةِ بَعْدَ الْفَتْحِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ -[378]-، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفُوا بِعَمَلِ ثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ جَائِزَةٌ، فَمُحَالٌ أَنْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ بِعَمَلِ الْعَامِ الرَّابِعِ، وَمِنَ الْمُمْتَنَعِ أَنْ يُظَنَّ بِالصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُمْ أَصَحُّ النَّاسِ أَذْهَانًا وَأَقْوَاهُمْ فَهْمًا، وَأَطْوَعُهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا وَلَا عَلِمُوا جَوَازَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَج، وَهُمْ قَدْ عَمِلُوهَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَعْوَامٍ مُتَّصِلَةٍ، كُلُّهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ لَا يَعْرِفُونَ بِهَذَا الْعَمَلِ الْمُتَّصِلِ الظَّاهِرِ الْمَقْصُودِ لَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ، أَنَّ الَّذِيَ عَمِلُوهُ جَائِزٌ، هَذَا أَمْرٌ لَا يَظُنُّهُ بِالصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِلَّا أَنْوَكُ تَامُّ السَّخْفِ. وَلَعَلَّ نَاقِصَ الْعَقْلِ يَقُولُ: كَانَتْ تِلْكَ الْعُمْرَةُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَأَرَادَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُرِيَهُمْ جَوَازَ الْعُمْرَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ: تَمَامُ مَا تَقُولُ أَنْ يَعْتَمِرَ بِهِمْ أَيْضًا فِي شَوَّالٍ؛ لِأَنَّهُ أَيْضًا مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلِيُرِيَهُمْ جَوَازَ الْعُمْرَةِ فِيهِ، وَهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إِلَّا مَنْ يَكَادُ أَنْ يَكُونَ الْقَلَمُ مَرْفُوعًا عَنْهُ، وَهَذَا بَيِّنٌ غَايَةَ الْبَيَانِ فِي إِخْلَالِ ظَنِّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْفَسْخَ إِنَّمَا كَانَ لِيُرِيَهُمْ جَوَازَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّنَا قَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ عَائِشَةَ وَابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِيمَا خَلَا مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، إِذْ يَقُولَانِ: إِنَّ النَّاسَ أَهَلُّوا بِعُمْرَةٍ وَحَجٍّ، وَتَقُولُ هِيَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاحَ لَهُمْ مُفْرَدَةً وَبِالْحَجِّ مُفْرَدًا، وَبِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ مَعًا، وَإِنَّهُمْ أَهَلُّوا مَعَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِكُلِّ ذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَدْ كَانَ كَمَا تَرَى فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ خَلْقٌ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ وَعَائِشَةُ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، وَخَلْقٌ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ مَعًا، فَقَدْ صَحَّ بِهَذَا أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ جَائِزَةٌ، وَعَمِلُوا بِهَا، فَبَطَلَ بِذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَمَرَهُمْ -[379]- بِفَسْخِ الْحَجِّ لِيُعَلِّمَهُمْ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا عَمِلُوا ذَلِكَ، فَكَيْفَ يُعَلِّمُهُمْ مَا قَدْ عَمِلُوهُ بَعْدَ مَا عَلِمُوا بِهِ؟ . وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ بِفَسْخِ الْحَجِّ لِيُعَلِّمَهُمْ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ جَائِزَةٌ، بِخِلَافِ مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ، لَمَّا خَصَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْأَمْرِ بِالْفَسْخِ مَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ، وَلَعَمَّ بِذَلِكَ مَنْ مَعَهُ هَدْيٌ، وَمَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ لِيَعُمَّهُمْ بِالتَّعْلِيمِ، وَفِي هَذَا بُطْلَانُ مَا ظَنُّوهُ مِنْ ذَلِكَ جُمْلَةً، وَارْتِفَاعُ الرِّيَبِ، وَبَيَانٌ أَنَّ الْفَسْخَ حُكْمُ مَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ، وَلَيْسَ حُكْمُ مَنْ مَعَهُ هَدْيٌ؛ كَمَا أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا مَزِيدَ وَلَا عِلَّةَ لِذَلِكَ، كَمَا لَا عِلَّةَ لِكَوْنِ الصَّلَوَاتِ خَمْسًا، وَلَا لِاخْتِصَاصِ رَمَضَانَ بِالصَّوْمِ دُونَ شَوَّالٍ، وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَالْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنْ يُقَالَ لَهُمْ، وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ،: كَانَ أَمْرُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَسْخِ حَقًّا يَجِبُ الِائْتِمَارُ بِهِ، وَشَرِيعَةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ كَانَ غَيْرَ حَقٍّ. فَإِنْ قَالُوا: كَانَ غَيْرَ حَقٍّ كَفَرُوا، وَقَالُوا: إِنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّ النَّاسَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَإِنْ قَالُوا: بَلْ كَانَ حَقًّا، وَشَرِيعَةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، قِيلَ لَهُمْ: صَدَقْتُمْ، فَالْحَقُّ بَاقٍ، مَا لَمْ يَأْتِ نَصٌّ صَحِيحٌ، أَوْ إِجْمَاعٌ بِنَسْخِهِ وَلَا نُبَالِي لِعِلَّةٍ كَانَ عَلَى دَعْوَاهُمْ، أَمْ لِغَيْرِ عِلَّةٍ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ مُسْلِمٍ أَنَّ السِّوَاكَ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لِكُلِّ صَلَاةٍ لَأَمَرَهُمْ بِهِ، شَقَّ أَوْ لَمْ يَشُقَّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لِكُلِّ صَلَاةٍ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهِ -[380]-، فَالْفَسْخُ إِذْ أَمَرَهُمْ بِهِ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ أَبَدًا بِلَا شَكٍّ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ وَاجِبٍ عَلَيْهِمْ لَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمْرَ إِلْزَامٍ وَحَتْمٍ، كَمَا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالسِّوَاكِ وَهُوَ أَحَبُّ التَّطَوُّعِ إِلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ أَخْبَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِوَاجِبٍ، لَا سِيَّمَا بِمَا شَقَّ عَلَيْهِمْ، كَمَا يَشُقُّ عَلَيْهِمُ الْفَسْخَ، وَلَا يَسَعُ مُسْلِمًا أَنْ يَظُنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِمَا لَيْسَ مِنَ الشَّرِيعَةِ، أَوْ بِمَا لَا يَلْزَمُ النَّاسَ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَبِهِ تَعَالَى نَعْتَصِمُ. وَالْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّهُ حَتَّى لَوْ صَحَّ مَا قَالُوا، وَوُجِدَ نَصٌّ صَحِيحٌ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِفَسْخِ الْحَجِّ تَعْلِيمًا لَهُمْ بِجَوَازِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَقَطْعًا لِمَا كَانُوا يَظُنُّونَهُ مِنْ تَحْرِيمِ ذَلِكَ، لَكَانَ ذَلِكَ بَاقِيًا إِلَى الْيَوْمِ وَأَبَدًا، وَقَدْ أَمَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالرَّمَلِ؛ لِيُرِيَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّةَ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ بَاقِيًا وَإِنِ ارْتَفَعَ السَّبَبُ، وَهَكَذَا لِكُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ، فَكَانَ فَسْخُ الْحَجِّ بَاقِيًا أَيْضًا كَذَلِكَ، فَكَيْفَ وَلَا يُوجَدُ مَا ظَنُّوهُ، وَلَا يَصِحُّ أَبَدًا، وَإِنَّمَا الْحَقُّ مَا ذَكَرَهُ جَابِرٌ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ أَمْرَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَلَيْهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ، وَهُوَ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ، فَالْأَمْرُ بِفَسْخِ الْحَجِّ وَحْيٌ أَوْحَاهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ، لَازِمٌ أَبَدًا كَمَا أَخْبَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ ذَلِكَ لِأَبَدِ الْأَبَدِ. وَالْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّنَا نَقُولُ لَهُمْ: إِذَا كَانَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلٍ لَمْ يَكْتَفُوا بِإِخْبَارِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِيَّاهُمْ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ جَائِزَةٌ، وَلَا بِعَمَلِ ثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ مُتَّصِلَةٍ يَعْمَلُونَهَا مَعَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، حَتَّى يَأْمُرَهُمْ بِفَسْخِ حَجِّهِمْ فِي عُمْرَةٍ، فَنَحْنُ أَحْرَى بِذَلِكَ مِنْهُمْ، فَالْعَمَلُ بِذَلِكَ بَاقٍ عَلَيْنَا أَبَدًا، لَا أَنْ يَقُولَ أَحْمَقُ: إِنَّنَا نَحْنُ اكْتَفَيْنَا مِنْ ذَلِكَ بِأَقَلَّ مِمَّا اكْتَفَى بِهِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَأَيْنَ تَقْلِيدُهُمْ لِلصَّحَابَةِ، وَقَوْلُهُمْ بِأَنَّ عُقُولَهُمْ لَا تُبِيحُ التَّمَيُّزَ، وَأَنَّ اتِّهَامَهَا لِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَاجِبٌ -[381]-. وَالْوَجْهُ التَّاسِعُ: لَا يَحِقُّ لِمَنْ يَتَمَسَّكُ مِنَ الْإِسْلَامِ بِشُعْبَةٍ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِالْحَقِّ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْفَسْخِ الَّذِي لَا يَحِلُّ لِيُعْلِمَهُمْ بِذَلِكَ جَوَازَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَهَذَا ظَنٌّ لَيْسَ فِي الْوَسْوَاسِ أَشَدُّ مِنْهُ، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُبِيحَ الْحَرَامَ لِيُعْلِمَ الْجُهَّالَ مَا يَجُوزُ لَهُمْ. فَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ الْفَسْخُ حَرَامًا تَرَكُوا قَوْلَهُمْ، وَرَجَعُوا إِلَى قَوْلِنَا فِي إِيجَابِهِ، أَوْ إِلَى قَوْلِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي إِبَاحَتِهِ، وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ بُطْلَانَ هَذَا الشَّغَبِ الْفَاسِدِ السَّاقِطِ الَّذِي مَوَّهَ بِهِ مَنْ مَوَّهَ، وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَقَدْ شَغَبَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّحَاوِيُّ فِي هَذَا الْفَصْلِ بِشَيْءٍ وَجَبَ أَيْضًا عَلَيْنَا إِيرَادُهُ وَنَقْضُهُ بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ، وَهُوَ: أَنْ جَعَلَ الْأَحَادِيثَ فِي ذَلِكَ مُتَعَارِضَةً، فَجَعَلَ حَدِيثَ عَائِشَةَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ الْعَقَدِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، وَفِيهِ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نَذْكُرُ إِلَّا الْحَجَّ، يُعَارِضُهُ حَدِيثُهَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي مَا خَلَا مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فِي بَابِ: أَمْرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ بِأَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ، ذَكَرْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ. فَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَهُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِحْلَالِ مِنْ عُمْرَةٍ لَا مِنْ حَجٍّ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذَا هَذْرٌ بِهِ مَا شِئْتَ مِنْهُ، وَمَا كَانَ يَخْفَى -[382]- مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ الْفَاسِدِ عَلَى مِثْلِ الطَّحَاوِيِّ لَوْلَا الْهَوَى وَفَرْطُ التَّقْلِيدِ الَّذِي يُعْمِي وَيُصِمُّ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ: بِأَنْ يُهِلَّ مَنْ مَعَهُ هَدْيٌ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ، هُوَ أَمْرٌ لَهُمْ بِالْقِرَانِ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَأْمُرْ قَطُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَؤُلَاءِ بِالْإِحْلَالِ، وَهَكَذَا نَصُّ الْحَدِيثِ فِي رِوَايَتِنَا. وَفِي رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا» ، فَهُوَ يُقِرُّ بِلِسَانِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُهُمْ أَنْ لَا يَحِلُّوا حَتَّى يَحِلُّوا مِنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا، ثُمَّ يَقُولُ هُوَ: إِنَّمَا أَحَلُّوا مِنْ عُمْرَةٍ فَقَطْ، وَيَرَى فِي سَائِرِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْمَأْمُورِينَ بِالْإِحْلَالِ إِنَّمَا كَانُوا الَّذِينَ لَا هَدْيَ مَعَهُمْ، وَهُمْ غَيْرُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ مَعَهُمُ الْهَدْيُ الَّذِينَ أُمِرُوا أَنْ لَا يَحِلُّوا، ثُمَّ يَخْلِطُ هَذَا التَّخْلِيطَ، وَيَأْتِي بِهَذَا الْأَمْرِ الْفَاحِشِ. ثُمَّ حَتَّى لَوْ وَجَدَ مُتَعَلِّقًا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَأْمُورِينَ بِجَمْعِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ كَانُوا هُمُ الَّذِينَ أُمِرُوا بِالْإِحْلَالِ، وَهُوَ لَا يَحِلُّ ذَلِكَ أَبَدًا لَكَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لَا لَهُ؛ لِأَنَّ نَصَّ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ: «ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا» ، فَالنَّصُّ يُوجِبُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكُونُونَ مُحِلِّينَ مِنَ الْحَجِّ وَمِنَ الْعُمْرَةِ مَعًا، فَخِلَافُ الْخَطَلِ الَّذِي أَتَى بِهِ الطَّحَاوِيُّ مِنْ أَنَّهُمْ إِنَّمَا أَحَلُّوا مِنْ عُمْرَةٍ لَا مِنْ حَجَّةٍ -[383]-. وَإِنَّ الْعَجَبَ لَيَكْثُرُ مِمَّنْ يَسْتَجِيزُ الِاحْتِجَاجَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَصَايِبِ، وَهَذَا الْعَمَى الظَّاهِرُ الَّذِي إِنْ سُلِّمَ بِأَنْ يَكُونَ جَهْلًا مُظْلِمًا، لَمْ يَسْلَمْ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا فَاحِشًا، وَغُرُورًا ظَاهِرًا، وَتَدْلِيسًا فِي دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَنَا، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْخُذْلَانِ، فَكَيْفَ وَالْحَدِيثَانِ الْمَذْكُورَانِ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا أَصْلًا؟ لِأَنَّ قَوْلَهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي رِوَايَةِ الْأَسْوَدِ وَالْقَاسِمِ عَنْهَا: خَرَجْنَا لَا نَذْكُرُ إِلَّا الْحَجَّ إِخْبَارٌ عَنْ بَدْءِ الْحَالِ وَعَنْ نِيَّتِهِمْ حِينَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَمِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ عَلَى نَصِّ قَوْلِهَا فِيهِ مِنْ لَفْظِهَا: خَرَجْنَا. وَفِي حَدِيثِ عُرْوَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ بِأَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ، كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَبْقَى لَفْظُهَا فِي الْحَدِيثِ تَبِعَةً مِنْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ إِهْلَالِ مَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ. أَفَلَا يَتَّقِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ يَجْعَلُ هَذَا تَعَارُضًا؟ وَلَكِنَّهُمْ يَأْبَوْنَ إِلَّا تَسْوِيدَ الْقَرَاطِيسِ، وَتَسْخِيمَ وُجُوهِ مَنْ يُغْتَرُّ بِهِمْ وَيُقَلِّدُهُمْ دِينَهُ، وَتَكْفِينَا الْمَئُونَةُ فِي بَيَانِ هَذَا الْهَذَيَانِ الَّذِي يَأْتُونَ بِهِ، وَلَكِنْ فِي الْأَجْرِ عَلَى ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَجَلُّ عِوَضٍ. نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ نِيَّاتِنَا وَعَمَلَنَا وَقَوْلَنَا خَالِصًا آمِينَ آمِينَ. ثُمَّ جَعَلَ الطَّحَاوِيُّ حَدِيثَ جَابِرٍ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ طُرُقٍ، وَفِيهِ مِنْ وَصْفِ حَالِهِمْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: لَسْنَا نَنْوِي إِلَّا الْحَجَّ، لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ، لَمْ يَأْتِ عَنْ جَابِرٍ مَا يُعَارِضُهُ، وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَ الْقَائِلِينَ ادَّعَى أَنَّ هَا هُنَا حَدِيثًا يُعَارَضُ هَذَا