وَهِي الْحِكْمَة الباحثة عَن كَيْفيَّة حفظ الرَّبْط الْوَاقِع بَين أهل الْمَدِينَة - وأعني بِالْمَدِينَةِ جمَاعَة مُتَقَارِبَة تجْرِي بَينهم الْمُعَامَلَات وَيَكُونُونَ أهل منَازِل شَتَّى.
وَالْأَصْل فِي ذَلِك أَن الْمَدِينَة شخص وَاحِد من جِهَة ذَلِك الرَّبْط مركب من أَجزَاء وهيئة اجتماعية، وكل مركب يُمكن أَن يلْحقهُ خلل فِي مادته أَو صورته ويلحقه مرض أَعنِي حَالَة غَيرهَا أليق بِهِ بِاعْتِبَار نَوعه، وَصِحَّة أَي حَالَة تُحسنهُ وتجمله.
وَلما كَانَت الْمَدِينَة ذَات اجْتِمَاع عَظِيم لَا يُمكن أَن يتَّفق رَأْيهمْ جَمِيعًا على حفظ السّنة العادلة، وَلَا أَن يُنكر بَعضهم على بعض من غير أَن يمتاز بِمنْصب إِذا يُفْضِي ذَلِك إِلَى مقاتلات عريضة لم يَنْتَظِم أمرهَا إِلَّا بِرَجُل أصطلح على طَاعَته جُمْهُور أهل الْحل وَالْعقد لَهُ أعوان وشوكة، وكل من كَانَ أشح وَأحد وَأَجرا على الْقَتْل وَالْغَضَب، فَهُوَ أَشد حَاجَة إِلَى السياسة
وَمن الْخلَل أَن تَجْتَمِع أنفس شريرة لَهُم مَنْعَة وشوكة على اتِّبَاع الْهوى ورفض السّنة العادلة، إِمَّا طَمَعا فِي أَمْوَال النَّاس، وهم قطاع الطّرق، أَو إِضْرَارًا لَهُم بغضب أَو حقد أَو رَغْبَة فِي الْملك، فَيحْتَاج فِي ذَلِك إِلَى جمع رجال وَنصب قتال.
وَمِنْه إِصَابَة ظَالِم إنْسَانا بقتل أَو جرح أَو ضرب أَو فِي أَهله بِأَن يزاحم على زَوجته، أَو يطْمع فِي بَنَاته وأخواته لغير حق، أَو فِي مَاله من غضب جهرة أَو سَرقَة خُفْيَة، أَو فِي عرضه من نسبته إِلَى أَمر قَبِيح يلام بِهِ أَو إغلاظ القَوْل عَلَيْهِ.
وَمِنْه أَعمال ضارة بِالْمَدِينَةِ ضَرَرا خفِيا كالسحر ودس السم وَتَعْلِيم النَّاس الْفساد وتخبيب الرّعية على الْملك وَالْعَبْد على مَوْلَاهُ وَالزَّوْجَة على زَوجهَا
وَمِنْه عادات فَاسِدَة فِيهَا إهمال للارتفاقات الْوَاجِبَة كاللواطة والسحاقة وإتيان الْبَهَائِم، فَإِنَّهُ تصد عَن النِّكَاح أَو انسلاخ عَن الْفطْرَة السليمة كَالرّجلِ يؤنث وَالْمَرْأَة تذكر، أَو حُدُوث لمنازعات عريضة كالمزاحمة على الْمَوْطُوءَة من غير اخْتِصَاص بهَا وكإدمان الْخمر.
وَمِنْه معاملات ضارة بِالْمَدِينَةِ كالقمار والربا أضعافاً مضاعفة والرشوة وتطفيف الْكَيْل وَالْوَزْن والتدليس فِي السّلع وتلقي الجلب والاحتكار والنجش.
وَمِنْه خصومات مشكلة يتَمَسَّك فِيهَا كل بِشُبْهَة، وَلَا تنكشف جلية الْحَال، فَيحْتَاج إِلَى