أَقُول: وَذَلِكَ أَن النَّاس إِذا عمروا أَرضًا مُبَاحَة فقصروا بهَا وَاخْتلفُوا فِي الطَّرِيق، فَأَرَادَ بَعضهم أَن يضيق الطَّرِيق وَيَبْنِي فِيهَا، وأبى الْآخرُونَ ذَلِك، وَقَالُوا: لَا بُد للنَّاس من طَرِيق وَاسِعَة قضى بِأَن يَجْعَل عرضه سَبْعَة أَذْرع وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا بُد من مُرُور قطارين من الْإِبِل يمشي أَحدهمَا إِلَى جَانب، وَثَانِيهمَا إِلَى الآخر، وَإِذا جَاءَت زاملة من هَهُنَا وزاملة من هُنَالك فَلَا بُد من طَرِيق تسعهما وَإِلَّا كَانَ الْحَرج وَمِقْدَار ذَلِك سَبْعَة أَذْرع.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من زرع فِي أَرض قوم بِغَيْر إذْنهمْ فَلَيْسَ لَهُ من الزَّرْع شَيْء وَله نَفَقَته " أَقُول: جعله بِمَنْزِلَة أجِير عمل لَهُ عملا نَافِعًا، وَالله أعلم.
اعْلَم أَن أتم الشَّرَائِع وأكمل النواميس هُوَ الشَّرْع الَّذِي يُؤمر فِيهِ بِالْجِهَادِ، وَذَلِكَ لِأَن تَكْلِيف الله عباده بِمَا أَمر وَنهى - مثله كَمثل رجل مرض عبيده، فَأمر رجلا من خاصته أَن يقيهم دَوَاء، فَلَو أَنه قهرهم على شرب الدَّوَاء، وأوجره فِي أَفْوَاههم لَكَانَ حَقًا، لَكِن الرَّحْمَة اقْتَضَت أَن يبين لَهُم فَوَائِد الدَّوَاء؛ ليشربوه على رَغْبَة فِيهِ، وَأَن يخلط مَعَه الْعَسَل؛ ليتعاضد فِيهِ الرَّغْبَة الطبيعية والعقلية.
ثمَّ إِن كثيرا من النَّاس يغلب عَلَيْهِم الشَّهَوَات الدنية والأخلاق السبعية ووساوس الشطان فِي حب الرياسات، ويلصق بقلوبهم رسوم آبَائِهِم، فَلَا يسمعُونَ تِلْكَ الْفَوَائِد، وَلَا يذعنون لما يَأْمر بِهِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يتأملون فِي حَسَنَة، فَلَيْسَتْ الرَّحْمَة فِي حق أُولَئِكَ أَن يقْتَصر على إِثْبَات الْحجَّة عَلَيْهِم، بل الرَّحْمَة فِي حَقهم أَن يقهروا؛ ليدْخل الْإِيمَان عَلَيْهِم على رغم أنفهم بِمَنْزِلَة إِيجَاد الدَّوَاء المر، وَلَا قهر إِلَّا بقتل من لَهُ مِنْهُم بكناية شَدِيدَة وتمنع قوى، أَو تَفْرِيق منعتهم وسلب أَمْوَالهم حَتَّى يصيروا لَا يقدرُونَ على شَيْء، فَعِنْدَ ذَلِك يدْخل أتباعهم وذراريهم فِي الْإِيمَان برغبة وطوع، وَلذَلِك كتب رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَيْصر " كَانَ عَلَيْك إِثْم الأريسيين.
وَرُبمَا كَانَ أسرهم وقهرهم يُؤَدِّي إِلَى إِيمَانهم، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ:
" عجب الله من قوم يدْخلُونَ الْجنَّة فِي السلَاسِل ".
وَأَيْضًا فالرحمة التَّامَّة الْكَامِلَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبشر أَن يهْدِيهم الله إِلَى الاحسان،
وَأَن يكبح ظالمهم عَن الظُّلم، وَأَن يصلح ارتفاقاتهم وتدبير منزلهم وسياسة مدينتهم، فالمدن