وَكَانَ الشَّارِب يُؤْتى بِهِ إِلَى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيأمر بضربه فَيضْرب بالنعال والأردية وَالْيَد حَتَّى يبلغ أَرْبَعِينَ ضَرْبَة، ثمَّ قَالَ: " بكتوه " فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ يَقُولُونَ: مَا اتَّقَيْت الله، مَا خشيت الله، مَا استحييت من رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ! وروى أَنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخذ تُرَابا من الأَرْض فَرمى بهَا وَجهه.

أَقُول: السَّبَب فِي نُقْصَان هَذَا الْحَد بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِر الْحُدُود أَن سَائِر الْحُدُود لوُجُود مفْسدَة بِالْفِعْلِ أَن يكون سرق مَتَاعا أَو قطع طَرِيق أَو زنى قذف، وَأما هَذَا فقد أَتَى بمظنة الْفساد دون الْفساد فَلذَلِك نقص عَن الْمِائَة وَإِنَّمَا كَانَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضْرب أَرْبَعِينَ لِأَنَّهُ مَظَنَّة الْقَذْف والمظنة يَنْبَغِي أَن تكون أقل من نفس الشَّيْء بِمَنْزِلَة نصفه.

ثمَّ لما كثر الْفساد جعل الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم حَده ثَمَانِينَ إِمَّا لِأَنَّهُ أخف

حد فِي كتاب الله فَلَا يُجَاوز غير الْمَنْصُوص عَن أقل الْحُدُود، وَإِمَّا لِأَن الشَّارِب يقذف غَالِبا إِن لم يكن زنى أَو قتل، وَالْغَالِب حكمه حكم الْمُتَيَقن وَأما سر التبكيت فقد ذكرنَا من قبل.

قَالَ النَّبِي أَيْنَمَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِن أهلك الَّذين من قبلكُمْ أَنهم كَانُوا إِذا سرق مِنْهُم الشريف تَرَكُوهُ وَإِذا سرق مِنْهُم الضَّعِيف أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَد، وَايْم وَالله لَو أَن فَاطِمَة بنت مُحَمَّد سرقت لَقطعت يَدهَا " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من حَالَتْ شَفَاعَته دون حد من حُدُود الله فقد ضاد الله " أَقُول: علم النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن حفظ جاه الشرفاء والمسامحة مَعَهم والذب عَنْهُم والشفاعة فِي أَمرهم أَمر توارد عَلَيْهِ الْأُمَم وانقاد لَهَا طوائف النَّاس من الْأَوَّلين والآخرين، فأكد فِي ذَلِك وسجل، فان الشَّفَاعَة والمسامحة بالشرفاء مناقضة لشرع الله الْحُدُود.

وَنهى رَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن لعن الْمَحْمُود أَو الْوُقُوع فِيهِ لِئَلَّا يكون سَببا لِامْتِنَاع النَّاس عَن إِقَامَة الْحَد، وَلِأَن الْحَد كَفَّارَة، وَالشَّيْء إِذا تدورك بِالْكَفَّارَةِ صَار كَأَن لم يكن، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِنَّه لفي انهار الْجنَّة منغمس بهَا ".

وَيلْحق بالحدود مزجرتان أخريان: إِحْدَاهمَا عُقُوبَة هتك حُرْمَة الْملَّة، وَالثَّانيَِة الذب عَن الأمامة، وَالْأَصْل فِي الأولى قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ " وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يجب أَن يُقَام اللائمة الشَّدِيدَة على الْخُرُوج من الْملَّة وَإِلَّا لانفتح بَاب هتك حُرْمَة الْملَّة، ومرضى الله تَعَالَى أَن تجْعَل الْملَّة السماوية بِمَنْزِلَة الْأَمر المجبول عَلَيْهِ الَّذِي لَا يَنْفَكّ عَنهُ، وَتثبت الرِّدَّة بقول يدل على نعني الصَّانِع أَو الرُّسُل أَو تَكْذِيب رَسُول أَو فعل تعمد بِهِ استهزاء صَرِيحًا بِالدّينِ، وَكَذَا إِنْكَار ضروريات الدّين، قَالَ الله تَعَالَى:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015