ظلم وعقوق لِأَنَّهُ تخييب أَبِيه، فانه طلب بَقَاء نَسْله الْمَنْسُوب اليه المتفرغ عَلَيْهِ، وَترك شكر نعْمَته وإساءة مَعَه، وَأَيْضًا فَإِن النُّصْرَة والمعاونة لَا بُد مِنْهَا فِي نظام الْحَيّ وَالْمَدينَة، وَلَو فتح بَاب الانتفاء من الاب
لأهملت هَذِه الْمصلحَة، ولاختلطت أَنْسَاب الْقَبَائِل، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيّمَا امْرَأَة أدخلت على قوم من لَيْسَ مِنْهُم فَلَيْسَتْ من الله فِي شَيْء وَلنْ يدخلهَا الله الْجنَّة، وَأَيّمَا رجل جحدو وَلَده وَهُوَ ينظر إِلَيْهِ احتجب الله مِنْهُ " وفضحه على رُءُوس الْخَلَائق ".
أَقُول: لما كَانَت الْمَرْأَة مؤتمنة فِي الْعدة وَنَحْوهَا مأمورة أَلا تلبس عَلَيْهِم أنسابهم وَجب أَن ترهب فِي ذَلِك وَإِنَّمَا عوقبت على هَذَا لِأَنَّهُ سعي فِي إبِْطَال مصلحَة الْعَالم ومناقضة لما فِي جبلة النَّوْع، وَذَلِكَ جالب بغض الْمَلأ الْأَعْلَى حَيْثُ أمروا بِالدُّعَاءِ لصلاح النَّوْع، وَأَيْضًا فَفِي ذَلِك تخييب لوَلَده وتضييق وَحمل لنقل الْوَلَد على آخَرين، وَالرجل إِذا أنكر وَلَده فقد عرضه للذل الدَّائِم والعار الَّذِي لَا يَنْتَهِي حَيْثُ لَا نسب لَهُ، وأضاع نسمته حَيْثُ ى منفق عَلَيْهِ، وَهُوَ يشبه قتل أَوْلَاد من جِهَة، وَعرض والدته للذل الدَّائِم والعار الْبَاقِي طول الْعُمر.
وَاعْلَم أَن الْعَرَب كَانُوا يعقون عَن أَوْلَادهم، وَكَانَت الْعَقِيقَة أمرا لَازِما عِنْدهم وَسنة مُؤَكدَة، وَكَانَ فِيهَا مصَالح كَثِيرَة رَاجِعَة إِلَى الْمصلحَة الملية وَالْمَدينَة فِيمَن تِلْكَ الْمصَالح التلطف بإشاعة نسب الْوَلَد، إِذْ لَا بُد من إشاعته لِئَلَّا يُقَال مَا لَا يُحِبهُ، وَلَا يحسن أَن يَدُور فِي السكَك، فينادي أَنه ولد لي ولد. فَتعين التلطف بِمثل ذَلِك، وَمِنْهَا اتِّبَاع دَاعِيَة السخاوة وعصيان دَاعِيَة الشُّح، وَمِنْهَا أَن النَّصَارَى كَانَ إِذا ولد لَهُم ولدا صبغوه بِمَاء اصفر يسمونه المعمودية، وَكَانُوا يَقُولُونَ: يصير الْوَلَد بِهِ نَصْرَانِيّا، وَفِي مشاكلة هَذَا الِاسْم نزل قَوْله تَعَالَى:
{صبغة الله وَمن أحسن من الله صبغة} .
فاستحب أَن يكون للحنفيين فعل بِإِزَاءِ فعلهم ذ لَك يشْعر بِكَوْن الْوَلَد حنيفيا تَابعا لملة إِبْرَاهِيم واسماعيل عَلَيْهِمَا السَّلَام والنفسانية، فأبقاها النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعمل بهَا، وَرغب النَّاس فِيهَا من الْإِجْمَاع على ذبح وَلَده، ثمَّ نعْمَة الله عَلَيْهِ أَن فدَاه بِذبح عَظِيم، وَأشهر شرائعهما الْحَج الَّذِي فِيهِ الْحلق وَالذّبْح، فَيكون التَّشَبُّه بهما فِي هَذَا تنويها بالملة الحنيفية ونداء أَن الْوَلَد قد فعل بِهِ مَا يكون من أَعمال هَذِه الْملَّة،