الشَّرِيعَة، وَهَذِه عقيدة بَاطِلَة لِأَن الشَّرْع نَازل على دستور الطبائع البشرية، والزهد نوع انسلاخ عَن الطبيعة البشرية وَإِنَّمَا ذَلِك أَمر الله فِي خَاصَّة نَفسه تكميلا لمقامه، وَلَيْسَ بتكليف شَرْعِي، وَرُبمَا يُؤَدِّيه إِلَى إِضَاعَة المَال الرَّمْي بِهِ فِي الْبحار وَالْجِبَال، وَهَذِه غَلَبَة لم يصححها الشَّرْع، وَلم يَعْتَبِرهَا منصة لظُهُور أَحْكَام الزّهْد بل الَّذِي اعْتَبرهُ الشَّرْع منصة شَيْئَانِ: أَحدهمَا الزَّائِد الَّذِي لم يحصل بعد، فَلَا يتَكَلَّف فِي طلبه اعْتِمَادًا على مَا وعده الله من الْبلَاء فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَاب فِي الْآخِرَة، وَثَانِيهمَا الشَّيْء الَّذِي فَاتَ من يَده، فَلَا يتبعهُ نَفسه، وَلَا يتأسف عَلَيْهِ، إِيمَانًا بِمَا وعد الله الصابرين والفقراء.
وَاعْلَم أَن النَّفس مجبولة على اتِّبَاع الشَّهَوَات، لَا تزَال على ذَلِك إِلَّا أَن يبهرها نور الْإِيمَان، وَهُوَ قَول يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام.
{وَمَا أبرئ نَفسِي إِن النَّفس لأمارة بالسوء إِلَّا مَا رحم رَبِّي} .
فَلَا يزَال الْمُؤمن طول عمره فِي مجاهدة نَفسه باستنزال نور الله، فَكلما هَاجَتْ دَاعِيَة نفسية لَجأ إِلَى الله، وتذكر جلال الله وعظمته، وَمَا أعد للمطيعين من الثَّوَاب وللعصاة من الْعَذَاب، فانقدح من قلبه وعقله خاطر حَتَّى يدمغ خاطر الْبَاطِل، فَيصير كَأَن لم يكن شَيْئا مَذْكُورا، إِلَّا أَن الْفرق بَين الْعَارِف والمستأنف غير قَلِيل، وَقد بَين النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدافعة بَين الخاطرين وَغَلَبَة خاطر الْحق على خاطر الْبَاطِل وانقياد النَّفس للحق إِذا كَانَت مطمئنة متأدبة بآداب الْعقل المتنور بِنور الْإِيمَان وبغيها عَلَيْهِ وإبائها مِنْهُ إِذا كَانَت عصية أَبِيه بِمَا ضرب فِي مَسْأَلَة الْبُخْل والجود من مثل جنتين من حَدِيد إِحْدَاهمَا سابغة وَالْأُخْرَى ضيقَة، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" مثل الْبَخِيل والمتصدق كَمثل رجلَيْنِ عَلَيْهِمَا جنتان من حَدِيد، وَقد اضطرت أَيْدِيهِمَا إِلَى ثديهما وتراقيهما فَجعل الْمُتَصَدّق كلما تصدق بِصَدقَة انبسطت عَنهُ، وَجعل الْبَخِيل كلما هم بِصَدقَة قلصت، وَأخذت كل حَلقَة بمكانها. أَقُول الرجل الَّذِي اطمأنت نَفسه جبلة أَو كسبا، فخاطر الْحق يملك نَفسه، ويقهرها أول مَا يَبْدُو، وَالرجل الَّذِي عَصَتْ نَفسه، وأبت فخاطر الْحق لَا يُؤثر فِيهَا، بل ينبو.
وَقد بَين الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن الْعَظِيم تنور الْعقل بِنور الْإِيمَان وفيضان نوره على النَّفس حَيْثُ قَالَ: