وتفصيله أَن أَفْرَاد الْإِنْسَان لَهَا أَحْكَام يمتاز بهَا بَعْضهَا من بعض، وَلها أَحْكَام تشترك فِيهَا جُمْلَتهَا، وتتوارد عَلَيْهَا جَمِيعهَا، وَلَا جرم أَنَّهَا من النَّوْع وَإِلَيْهِ فِي قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة " الحَدِيث.
وكل نوع يخْتَص بِهِ نَوْعَانِ من الْأَحْكَام: أَحدهمَا الظَّاهِر كالخلقة أَي اللَّوْن والشكل والمقدار، وكالصوت أَي فَرد وجد مِنْهُ على هَيْئَة يُعْطِيهَا لنَوْع وَلم يكن مخدجا من قبل عصيان الْمَادَّة، فَإِنَّهُ لَا بُد يتَحَقَّق بهَا، ويتوارد عَلَيْهَا فالإنسان مستوي الْقَامَة نَاطِق بَادِي الْبشرَة، وَالْفرس معوج الْقَامَة صاهل
أشعر إِلَى غير ذَلِك مِمَّا لَا يَنْفَكّ عَن الْأَفْرَاد عِنْد سَلامَة مزاجها. وَثَانِيهمَا الْأَحْكَام الْبَاطِنَة كالإدراك والاهتداء للمعاش والاستعداد لما يهجم عَلَيْهَا من الوقائع، فَلِكُل نوع شَرِيعَة، أَلا ترى النَّحْل كَيفَ أوحى الله تَعَالَى إِلَيْهَا أَن تتبع الْأَشْجَار، فتأكل من ثمراتها، ثمَّ كَيفَ تتَّخذ بَيْتا يجْتَمع فِيهِ بَنو نوعها، ثمَّ كَيفَ تجمع الْعَسَل هُنَالك، وَأوحى إِلَى العصفور أَن يرغب الذّكر فِي الْأُنْثَى، ثمَّ يتَّخذ عشا، ثمَّ يحضنا الْبيض، ثمَّ يزقا الْفِرَاخ، ثمَّ إِذا نهضت الْفِرَاخ علمهَا أَيْن المَاء وَأَيْنَ الْحُبُوب، وَعلمهَا ناصحها من عدوها، وَعلمهَا كَيفَ تَفِر من السنور والصياد، وَكَيف تنَازع بني نوعها عِنْد جلب نفع أَو دفع ضرّ، وَهل تظن الطبيعة السليمة بِتِلْكَ الْأَحْكَام أَنَّهَا لَا ترجع إِلَى اقْتِضَاء الصُّورَة النوعية.
وَاعْلَم أَن سَعَادَة الْأَفْرَاد أَن تمكن مِنْهَا أَحْكَام النَّوْع وافرة كَامِلَة وَألا تعصى مادتها عَلَيْهَا، وَلذَلِك يخْتَلف أَفْرَاد الْأَنْوَاع، فِيمَا يعد لَهَا من سعادتها أَو شقاوتها، وَمهما بقيت على مَا يُعْطِيهِ النَّوْع لم يكن لَهَا ألم لَكِنَّهَا قد تغير فطرتها بِأَسْبَاب طارئة بِمَنْزِلَة الورم، وَإِلَيْهِ وَقعت الْإِشَارَة بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثمَّ أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَو ينصرَانِهِ، أَو يُمَجِّسَانِهِ ".
وَاعْلَم أَن الْأَرْوَاح البشرية تنجذب إِلَى هَذِه الحضرة تَارَة من جِهَة البصيرة والهمة، وَتارَة من جِهَة تشبح آثارها فِيهَا إيلاما وانعاما، أما الانجذاب بالبصيرة، فَلَيْسَ أحد يتخفف عَن ألواث البهيمية إِلَّا وتلحق نَفسه بهَا، وينكشف عَلَيْهَا شَيْء مِنْهَا وَهُوَ الْمشَار إِلَيْهِ فِي قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اجْتمع آدم ومُوسَى عِنْد ربهما " وروى عَنهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من طرق شَتَّى أَن أَرْوَاح الصَّالِحين تَجْتَمِع عِنْد الرّوح الْأَعْظَم، أما الانجذاب الآخر فَاعْلَم أَن حشر الأجساد وإعادة الْأَرْوَاح إِلَيْهَا لَيست حَيَاة مستأنفة إِنَّمَا هِيَ تَتِمَّة النشأة الْمُتَقَدّمَة بِمَنْزِلَة التُّخمَة لِكَثْرَة الْأكل. كَيفَ وَلَوْلَا ذَلِك لكانوا غير الْأَوَّلين، وَلما أخذُوا بِمَا فعلوا.