وَهَذَا الْكَلَام إِنَّمَا أردنَا بِهِ ضرب الْمِثَال. والمقامات لَيست محصورة فِيمَا ذكرنَا، فقس غير الْمَذْكُور على الْمَذْكُور، وَالْأَحْوَال كالسكر وَالْغَلَبَة والعزوف عَن الطَّعَام وَالشرَاب مُدَّة مديدة، وكالرؤيا والهاتف على المقامات.
وَإِذا قد فَرغْنَا مِمَّا يتَوَقَّف عَلَيْهِ شرح أَحَادِيث الْبَاب حَان أَن نشرع فِي الْمَقْصُود، فَنَقُول.
أصل المقامات وَالْأَحْوَال الْمُتَعَلّقَة بِالْعقلِ هُوَ الْيَقِين، وينشعب من الْيَقِين: التَّوْحِيد، وَالْإِخْلَاص والتوكل، وَالشُّكْر، والأنس. والهيبة، والتفريد، والصديقية، والمحدثية وَغير ذَلِك مِمَّا يطول عده، وَقَالَ عبد الله بن
مَسْعُود: الْيَقِين الْإِيمَان كُله ويروي رَفعه، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " واقسم لنا من الْقَيْن مَا تهون بِهِ علينا مصائب الدُّنْيَا ".
أَقُول: معنى الْيَقِين أَن يُؤمن الْمُؤمن بِمَا جَاءَ بِهِ الشَّرْع من مَسْأَلَة الْقدر وَمَسْأَلَة الْمعَاد، ويغلب الْإِيمَان على عقله، ويترشح من عقله رشحات على قلبه وَنَفسه حَتَّى يصير الْمُتَيَقن بِهِ كالمعاين المحسوس، وَإِنَّمَا كَانَ الْيَقِين هُوَ الْإِيمَان كُله لِأَنَّهُ الْعُمْدَة فِي تَهْذِيب الْعقل، وتهذيب الْعقل هُوَ السَّبَب فِي تَهْذِيب الْقلب وَالنَّفس، وَذَلِكَ لِأَن الْيَقِين إِذا غلب على الْقلب انشعب مِنْهُ شعب كَثِيرَة فَلَا يخَاف مِمَّا يخَاف مِنْهُ النَّاس فِي الْعَادة علما مِنْهُ بِأَن مَا أَصَابَهُ لم يكن ليخطئه، وَمَا أخطأه لم يكن ليصيبه، ويهون عَلَيْهِ مصائب الدُّنْيَا اطمئنانا بِمَا وعد فِي الْآخِرَة، وتزدري نَفسه بالأسباب المتكثرة علما مِنْهُ بِأَن الْقُدْرَة الوجوبية هِيَ المؤثرة فِي الْعَالم بِالِاخْتِيَارِ والإرادة، وَبِأَن الْأَسْبَاب عَادِية فيغتر سَعْيه فِيمَا يسْعَى النَّاس فِيهِ، ويكدون، ويكدحون، فيستوي عِنْده ذهب الدُّنْيَا وحجرها.
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِذا تمّ الْيَقِين، وَقَوي، وَاسْتمرّ حَتَّى مَا يُغَيِّرهُ فقر وَلَا غنى وَلَا عز وَلَا ذل - انشعب مِنْهُ شعب كَثِيرَة:
وَمِنْهَا الشُّكْر وَهُوَ أَن يرى جَمِيع مَا عِنْده من النعم الظَّاهِرَة والباطنة فائضة من بارئه جلّ مجده، فيرتفع بِعَدَد كل نعْمَة محبَّة مِنْهُ إِلَى بارئه، وَيرى عَجزه عَن الْقيام بشكره، فيضمحل، ويتلاشى فِي ذَلِك.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أول من يدعى إِلَى الْجنَّة الحامدون الَّذين يحْمَدُونَ الله تَعَالَى فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء ".
أَقُول: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ آيَة انقياد عقله وَقَلبه لليقين ببارئه، وَلِأَن معرفَة النعم ورؤية فيضانها من بارئها أورثت فيهم قُوَّة فعالة فِي عَالم الْمِثَال تنفعل مِنْهَا
القوى المثالية والهياكل